الحمد لله الذي أنار بدينه
الإسلامي الحنيف المعمورة، وأشاع بنور الحق مشارق الأرض ومغاربها، وبدد بضيائه
دياجير الظلم والظلمات، وأدال بحوافر خيل جنده عروش البغاة والطغاة، ودك قلاع
الكفر والإلحاد، وأعلى النداء الخالد: {الله أكبر.. الله أكبر}.
ليصدح في جنبات الوهاد وذرى شمم
الجبال، ودروب الحضر والريف والبادية، وهدى بمعارفه الناس من كل لون وجنس ولغة،
وأبان لهم الحق من الباطل فتسابقوا لاعتناق عقيدته فكراً وقولاً وعملاً. وصلى الله
على النبي الصادق الأمين محمد بن عبد الله، ورضي الله عن صحبه الميامين، الذين
حملوا الأمانة من بعده، مسترخصين الأرواح لإعلاء راية التوحيد ونشر الدين الحنيف.
لم يكن تتبّعي للتاريخ المغربي وشمال
إفريقية عفوياً، بل كان إرضاءً لرغبةٍ جامحةٍ، وقد أخذ تاريخ المشرق من عمري سنين
طويلة، فقد أحسست أنه لابد من ولوج تاريخ نصف هذه الأمة الذي يمتد آلاف الأميال في
إفريقية وأعماقها، فرحت بشغفٍ وحبٍ أسيح في منعطفات تاريخ تلك البلاد، لأجد أن في
ذلك التاريخ ما يهم كل مسلم من دارسٍ أو باحثٍ أو مطالع، فقد استوقفتني أحداث
وتقلبات ومواقف تستحق تتبعها واستقصاؤها. وكان في مقدمة ما استهوتني من مواضيع
مهمة، المواقف الخالدة والمشرفة لفقهاء إفريقية وعلمائها الأشاوس الذين تجشّموا
المصاعب والمخاطر في سبيل تحصيل العلم، والثبات عند حدوده الشرعية، والوقوف عند
حلاله وحرامه، وتصدّيهم بلا جزع أو خوف أو تردد لكل حاكم ظالم متجبر، ومحاربتهم
لكل بدعة أو دعوة ضالة، واستشهادهم دون السنّة المطهرة والدين الإسلامي الحنيف،
وضربهم أروع الأمثلة في التضحية والثبات والعدل والعبادة والزهد والورع والتقى
والعفاف، محتسبين كل ذلك عند الله، فلم تمتد أيديهم لشيء يعتقدون فيه أنّه من سحتٍ
أو اغتصاب، مؤثرين الكفاف وسدَّ الرمق بما يجدون فيه الطُهر والحلال، غير منحنين
أمام الاغراءات مهما عَظُمت، وغير مُنساقين وراء هوى المناصب أو المراكز الدنيوية
مهما علت. فرضوا مهابتهم على السلاطين والحكام بتعففهم وامتناعهم عن كل عطاء،
وزرعوا محبتهم واحترامهم في قلوب الناس بكرمهم وسمو أخلاقهم وحسن معاملاتهم وصبرهم
وحلمهم. فكانوا القدوة الصالحة والأسوة الحسنة من العلماء العاملين الذين لا
تأخذهم في الله لومة لائم.. للخلف من بعدهم الذين امتدت سلسلتهم المباركة في
إفريقية حتى إخماد جذوة الدعوة العبيدية الضالة، واقتلاعها من أرضها الطيبة.
حول هؤلاء الرجال الأفذاذ الذين
قلما يجود الدهر بأمثالهم يدور محور حلقاتي هذه، ولمواقفهم الخالدة المتميزة سخرت
قلمي وجهدي ووقتي، فمن حقهم علينا أن نستذكر فصول حياتهم المليئة بالأحداث الجسام،
لنتعلم منهم الصبر والحلم والشجاعة والكرم والإيثار والحميّة والمروءة والعبادة
والزهد والفقه والحلم والورع. وقد غزت بلداننا الإسلامية موجة طاغية عاتية تتزيا
بمسوح العلم والثقافة والمدنية والمعرفة وتطور الحياة، وهي في حقيقتها تريد
استئصال شأفة هذا الدين الذي ما زال عصيّا عليهم منذ أربعة عشر قرناً وحتى الآن،
خابت فيه غزواتهم وحملاتهم، وأخفقت كل مؤامراتهم في النيل منه، إلى أن بات يغزوهم
هذا الدين في عقر دارهم وفي معاقلهم ومجتمعاتهم، رغم إمكانيات الدعاة المتواضعة،
في مواجهة أباطرة القوة والمال والجبروت والطغيان{ويمكرون ويمكر الله والله خير
الماكرين..}سورة الأنفال: آية (8).{إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}سورة الحجر:
آية (9).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق