كانت المعركة بين المسلمين
والكافرين لا تهدأ، فهؤلاء يدعون إلى الله سبحانه وتعالى، وأولئك يرفضون هذه
الدعوة الكريمة، لأنها تمس مصالحهم، وتعيد ما اغتصبوه إلى أهل الحق.
ففي مكة، قبل الهجرة كانت
كل قبيلة تعذب من آمن من أبنائها ومواليها، وتنكل بهم وتحرض القبائل الأخرى على
إيذاء المسلمين من أبنائها، أما رؤوس الشرك فقد كانوا شياطين الإنس، تؤزهم على
المسلمين أزاً، .. أمثال ذلك: أبو جهل، وشيبة وعتبة ابنا ربيعة، وعقبة بن أبي
معيط، والأخنس بن شريق .. فقُتِل من هؤلاء من قتل في بدر ومات من مات بغيظهم، لم
ينالوا خيراً، وكانت النار مأواهم.
وحين هاجر رسول الله صلى
الله عليه وسلم إلى المدينة ومعه المسلمون بدأ الصدام المسلح بين الفريقين،
المسلمين وأعداء الله، ولما كان النصر في كفة المسلمين وضعفت تجارة المشركين، لم
يجدوا بداً من مهادنة المسلمين والصلح معهم، وهذا ما كان في صلح الحديبية.
فقد صارت رئاسة قريش إلى
أبي سفيان بن حرب الذي أسلم بعد فتح مكة، وكان تاجراً مرموقاً يحمل أموال قريش في
قوافل تجارية إلى بلاد الشام، وقد يمر وهو ذاهب إليها أو عائد منها على مدينة
الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم .
رآه مرة في المدينة سلمان
الفارسي، وصهيب الرومي، وبلال الحبشي في نفر.
وما أدراك ما سلمان؟ إنه
الرجل الذي كان يعيش في ترف وأبهة ورغد، وأبوه صاحب نار المجوس، تجبى إليه الأموال
ويغدق الملوك عليه الهبات والعطايا، ولو كان سلمان من أهل الدنيا لنال منها أكثر
ما ينال فتى من عز وسؤدد!! ولكه عاف الدنيا ومفاتنها، وساح في بلاد الله يبحث عن
الحقيقة، وعن الدين القويم، فتنقل في الشام ثم الحجاز حتى وصل إلى يثرب قبل هجرة
المصطفى صلى الله عليه وسلم إليها، خرج من
بلاده (فارس) سيداً، ووصل إلى الحجاز عبداً مملوكاً، فقد غشه من حمله إليها وأسرَه
وباعه كما يباع العبيد، ولكنه رضي بذلك لأنه علم أنه وصل إلى منبع النور، وكهف
الهداية، ولقي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورفع الله سلمان بالإسلام حتى
قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((سلمان منا آل البيت)).
وصهيب! وما أدراك ما صهيب؟
كان أحد الموالي في مكة يصنع الرماح والسهام، حداداً ماهراً، ونبالاً دقيق الرمي..
جمع من مهنته هذه مالاً وفيراً.. آمن بالدعوة في بدايتها، وحين أذن الله عزّ وجل
لرسوله صلى الله عليه وسلم وللمسلمين
بالهجرة أخبأ ماله في مكان بعيد عن العيون، وترك داره وهو يعلم أن المشركين
سيغتصبونها، تركها وانطلق نحو المدينة .. وحين علم به المشركون تبعوه، فلما أحس
بهم ارتفع على نشز من الأرض وسدد إليهم سهمه قائلاً: تعلمون يا معشر قريش دقة
تصويبي، فلا أخطئ أحدأً، ولن تصلوا إليّ حتى تنفدَ سهامي وأقتل منكم بعددها..
كانوا يعلمون ذلك، فقالوا: ما لنا في نفسك من أرب، لكن جئتنا فقيرا معدَماً
فاغتنيت، فأعطنا ما اكتسبته منا ندعك.. وهذا ليس من حقهم، وإنهم عادون ظالمون، لقد
نال هذا المال بكد يمينه، وعرق جبينه، فعلام يتقوَّلون؟ وبم يحتجون؟ لكن الظلم
ظلمات يوم القيامة .. فليأخذوا المال ما دام صاحبه ينجو منهم .. دلهم على مخبئه،
فتركوه.. وانطلقوا إلى المال.. قال أحدهم: أصدقتموه؟! فقال ثانٍ: نصدّقُه، إن
أصحاب محمد لا يكذبون.
ووصل صهيب إلى المدينة،
فاستقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم مبتسماً يقول: ((ربح البيع أبا يحيى، ربح
البيع)).
وبلال!! ما أدراك ما بلال؟
كان عبداً لأمية بن خلف مقرباً منه، يعتمد عليه في تجارته، فبلال ذكي ألمعي، حين
حوى قلبه نور الإيمان، وصدّق الرسول الكريم غضب منه مولاه، وأمره بالعودة إلى
عبادة الحجر الذي لا يضر ولا ينفع، وأنى لمن تنَشٌّق عبير الإيمان أن يعود إلى عفن
الضلال، وكريهة الكفر؟! أبى، فنكل به على الرمضاء، وأذاقه مُرَّ العذاب، وبلال
ثابت صامد، يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، أحد أحد، فرد صمد، فلما مرَّ به
الصديق رضي الله عنه اشتراه بماله وأعتقه، فكان الفاروق عمر يقول إذا رأى بلالاً:
سيدنا أعتق سيدنا، وصار مؤذنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم يصدق بالحق ويعلن التوحيد.
رأى هؤلاء المؤمنون أبا
سفيان في المدينة فقالوا: ما أخذتْ سيوفُ الله من عدو الله مأخذها، كانوا يودون في
المعارك السابقة أن يكونوا قد قتلوه، وتخلصوا من عقبةٍ كأداءَ في طريق المسلمين.
سمعهم الصدِّيق رضي الله
عنه يقولون ذلك، فقال لهم – وهو المرهف، ذو الشعور السامي والذوق الرفيع - :
أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم؟! ولعل الصدِّيق أحس أن أبا سفيان سمع مقالتهم تلك،
وهو في مدينتهم، وفي صلحهم، ورأى أن مثل هذا الكلام لا يقال إلا في ساحة الحرب،
أما في السلام فلا ..
وأتى الصدِّيق رسول الله صلى
الله عليه وسلم فأخبره بما كان، وقال له: يا رسول الله لعلهم إذا سمعوا مني ما
قلته في حق أبي سفيان من لوم وعتاب قد أغضبهم، وأساء إليهم، فما كان من المعلم
العظيم إلا أن نبه الصدِّيق على جلال قدره ومكانته عند رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقال: ((يا أبا بكر، لئن كنت قد أغضبتهم لقد أغضبت ربك.. فما ينبغي أن يوبخ
المسلم أخاه انتصاراً للمشركين .. وهؤلاء النفر عباد الله وخلاصة المؤمنين وأولُ مَن
نصرَ الدعوة وجاهد في سبيلها)).
فانطلق الصديق إليهم
مسرعاً وهم ما يزالون في مكانهم الذي تركهم فيه فقال: يا إخوتاه – والمسلم أخو
المسلم – أغضبتكم؟ قالوا له بلسان المحب: لا! أيها الصديق، ما أغضبتنا، يغفر الله
لك!!
لقد رباهم الإسلام على
الصفح والمغفرة والحب في الله، ورباهم على الأخوة في الله، نسأل الله أن يحشرنا
معهم في زمرة عباده الصالحين.
رياض الصالحين: باب ملاحظة
اليتيم
الحديث /188/
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق