الصفحات

تنويه

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الرابطة والمشرفين عليها.

Translate

2015-05-11

من صور المرأة في أدبنا العربي – بقلم: الدكتورة زينب بيره جكلي

هذه المقالة فيما أرى تساعد في تصحيح ما كان عليه أدبنا العربي من وصف للمرأة ساد أمدا طويلا ، كان الدارسون فيه يصورون المرأة  على أنها متعة وتسلية ، وكأن قد استهواهم أن يعرضوا هذه الأصوات الناشزة ، وأن يطمسوا ما في أدبنا من مواقف حميدة ، ولم تكن هذه الأصـوات هي الوتر الذي عزف عليه الشعراء جميعـا فقد أبدت صفحة آدابنـا جوانب خير كثيـرة حتى من الشعراء الذين عرفوا بنشازهم وانحرافهم ، فامرؤ القيس الذي طرده أبوه لمجونه وعاب عليه النقاد تصريحه للمنكر يقول محذرا من بنات الهوى الذين يردون الشباب بنعومتهن :
نواعـم يتبعـن الهــــوى ســـبـل الردى    يقلن لأهل الحلم ضلا بتضلال
صرفت الهوى عنهن من خشية الردى    ولست بمقلي الخصال ولا قـال
     ويقول مثنيا على فتيات منعمات عفيفات :
غرائر في كـن وصون ونعمة             يحلـين ياقوتا وشذرا مقفرا

ويتحدث علقمة الفحل عن زوجته فإذا هي تصد عن الحديث مع الرجال، وتحفظ غيبة زوجها ، ولا تفشي أسراره :
منعــَّــمـة ما يستطـاع كلامهــــا        على بابهـا من أن تـزار رقيــــب
إذا غاب عنها البعل لم تفش سره        وترضى إياب البعل حيـن يؤوب
      وأما الشنفرى فإنه خلد لنا صورة عطرة للمرأة الجاهلية ، فهي منقبة ، ولا تلتفت يمينا أو يسارا حين تمشي بل تطرق رأسهاحياء حتى تبدو للناظرين كأنها تبحث عن شيء فقدته ، وإذا ماغاب عنها زوجها حفظت غيبته ، وإن تكلمت مع آخرين تقطع حديثها حياء ، وحديثها لايؤذي السامعين ، ولذلك فإن زوجها يشعر معها بالراحة والطمأنينة ، يقول في ذلك مصورا إياها في لوحة شرف :
لقد أعجبتني لاسقوطا قناعهـا           إذا ما مشت ولا بذات تلفت
تحل بمنجـاة من اللــَّــوم بيتهـا       إذا ما بيوت بالملامــــة حلت
كأن لها في الأرض نسيا تقصه         على أمها ، وإن تكلمك تبلت
أميمة لا يخزي نثـاها حليلهـا         إذا ذكر النسوان عفت وجلت
إذا هو أمسى آب قـرة عينـه         مآب السعيد لم يسل أين ظلت
ويحكي الأعشى عن أم هريرة أنها :
     غراء فرعاء مصقول عوارضهـا       تمشي الهوينى كما يمشي الوجي الوحل
       ليست كمن يكره الجيران طلعتها      ولا تـراهـــا لسـرِّ الجــار تخـْــــتَـتــل
   ويصف آخر واحدة فإذا هي مخدرة فوق هودجها مصونة :
كأن على الحـُدوج مخَدَّرات           دمـى صنعـاء خط لها مثـال
      ولم يكن الشعر وحده يعبر عن خلق المرأة الجاهلي وعفافها بل كان النثر كذلك ، فأمامة بنت الحارث أوصت ابنتها يوم زفافها خير وصية تنـم عن رجاحة عقل ونبل :" أي بنية إنك فارقت الجو الذي منه خرجت ، وخلفت العش الذي فيه درجت ، إلى وكر لم تعرفيه ، وقرين لم تألفيه ،فأصبح بملكه عليك رقيبا ومليكا ، فكوني له أمة يكن لك عبدا ، واحفظي له عشرا يكن لك ذخرا " ثم أوصتها بحسن السمـع والطاعة ، والتفقد لمواضع عينه وأنفه ، والتفقـد لوقت منامه وطعامه ، والاحتراس بماله ، والإرعاء على حشمه وعياله ، وألا تعصي له أمرا ولا تفشي له سرا "
      ألا ليت فتياتنا اليوم يدركن مغزى هذه الوصية الجاهلية القيمة .
    ولقد قرأت من شذوذ اليهود ماينم عن عفة المرأة العربيـة واستنكارها للمنكر ، إذ يروي ابن القيم الجوزية في أخبار النساء أن القيطنون زعيم اليهود في يثرب - المدينة المنورة قبل الإسلام ــ غلب العرب فسامهم خسفا وذلا ، وقضى عليهـم ألا تدخل امرأة على زوجها حتى يبـدأ بهـا ، فخرجت أخت مالك بن العجلان السالمي الخزرجي على الحي سافرة يوم زفافها فغضب مالك ووثب إليها ليقتلها وقال لها " فضحتني ونكست رأسي وأغضضت بصري فقالت له : ما تريده بي شر من هذا وأقبح وأفضح إن كنت تهديني إلى غير بعلي فيصيبني فهذا شر من خروجي سافرة حاسرة ، فقال مالك صدقت وأبيك ، واحتال على القيطنون فقتله ، فجعلـه الأوس والخزرج سيدهم .
      وقد رسم لنا القرآن الكريم صورة أدبية للمرأة العاملة الحيية التي تخرج إلى عملها وهي تحافظ على حيائها وعفتها ، فلا تزاحم الرجال وتمشي في استحياء وتخاطبهم بحياء ، وذلك في سورة القصص إذ يحكي تعالى عن سيدنا موسى عليه السلام أنه وجد امرأتين عند ماء مديـن قد انزوتا بعيدا عن الرجال فقال " ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعـاء  وأبونا شيخ كبير فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لمـا أنزلت إلي من خير فقيـر ، فجاءتـه إحداهما تمشي على استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا  فلما جاءه وقص عليه القصص قال لاتخف نجوت من القوم الظالمين. قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خيـر من استأجرت القوي الأمين . قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتي "
   وقد أدرك المسؤولون أهمية الكلمة الطيبة والخبيثة عن المرأة فالشاعـر الفرزدق لما قـال شعرا ماجنا قال له الخليفة سليمان بن عبـد الملك " قد وجب عليـك الحد " فقال الفرزدق " يا أمير المؤمنين قد درأ الله عني الحد بقوله " والشعراء يتبعهم الغاوون ، ألم تر أنهم في كل واد يهيمون . وأنهم يقولون مالا يفعلون " ، ، كما أشاد المجتمع بمثل شعرعبد الله بن أبي بكر الذي قاله في زوجته  لأنه نعتها بذات الخلق الحميد والرأي السديـد، والعفـة والحياء، وذلك في قوله :
أعاتك لا أنساك ما ذر مشرق          وما ناح قمري الحمام المطـوق
أعاتك قلبـي كل يوم وليلـة          لديك بما تخفي النفـوس معـلق
لها خلق جزل ورأي ومنطق          وخلق مصون في حياء ومصدق
        وبوقار أم عقبة بنت عمرو اليشكرية ، وكان زوجها قد توفي عنها فلما خطبت قالت :
سأحفـظ غسانا على بعد داره         وأرعاه حتى نلتقي يوم نحشر
وإني لفي شغل عن الناس كلهم        فكفوا فما مثلي من الناس يعذر
       وأدخل عمر بن عبد العزيز جريرا عليه ومنع كثير عزة من ذلك لأن الأول كان عفيفا وكان الآخر غزلا ، وطلب المهدي من بشار أن يتم شطرا في وصف جارية رآها بدأه بقولـه " أبصرت عيني لحيني " فأتم بشار بوصف عرى به الجارية فغضب المهـدي وقال " لولا أنك أعمى لقطعت عنقك " 
      ويطول بي الحديث لو رحت أتحدث عما حوته بطون الكتب من أدب رفيع يعوض عن الآداب المنكرة لو عقلها الدارسون ، وتحروها بصدق ، وهذه مهمـة جلى تقع على عاتقهم ، ومن أضاء بقلمه تعاليم الحق والهدى استحق كل إكبار وإجلال ، أما من ترك لريشته الفنية أن تصول وتجول في الأجواء والأعراض دونما حساب للكلمة عد في زمرة الذين يتبعهم الغاوون ، و" إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيـا والآخرة  والله يعلم وأنتم لا تعلمون " ، و"إن الرجل ــ كما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم ــ ليتكلم بالكلمـة لايلقي لها بالا يهوي بها في جهنم " ، ويكفي أن نعلم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عزل النعمـان بن نضلـة لأنه أرسل إلى زوجتـه رسالة شعرية يستثيـر بها غيرة الأنثى ، وأن عثمـان بن عفان رضي الله عنه سجن ضابئ بن الحارث لأنه رمى في هجائـه امـرأة من المسلمين وقال له " ولو أحد قبلي قطع لسان شاعر في هجاء لقطعت لسانك " ، وأن عبـد الله بن مصعب حذر من رواية شعر "عمر بن أبي ربيعة "  وقال لمن رأى معهـا شعره " ويحك تدخلين على النساء بشعر عمر ، إن لشعره لموقعا  في القلوب ومدخلا لطيفـا ، لو كان شعر يسحر لكان هو فارجعي به " وقد تاب عمر هذا في أواخر عمره ، وكان لايجيب سائلـه عن شعره الغزلي .

   أخيرا فإن على دارسي الأدب أن يعلموا أن الكلمة التي بين أيديهم هي نور ونار ، نـور تضيء للأجيال سبل الخير إن حملوا إلى مجتمعاتهم الكلمة الطيبة التي تحمل بين طياتها قيما وفضائل ، أو تكون نارا وجحيما حين تسعر النفوس ، وتقلب القيم ، وتجعل المنكر معروفـا والمعروف منكرا حتى تنحرف سفينة المجتمع عن مسارها ، وقد يقوى الموج الطاغي فيهـا فيودي بها ، وذلك حين يمتاح الدارسون من النبع الآسن ويعدونه أدبا خالدا !!.  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق