على طريقة محامي الدفاع، جنّد نصر
الله إمكاناته لتجميل المشروع الإيراني، وتبسيط جرائمه، وتخفيف مخاطره. لم يظهر مرة
قبل ذلك مستميتاً في الدفاع عن قضية بقدر ما ظهر في خطابه الأخير. استخدم كل أسلوب
ممكن، وقفز عن كل حقيقة محرجة، وقلب كل واقعة ظاهرة... بهدف تشكيل حشد شعبي يحرج الدول
المشاركة في "عاصفة الحزم"، لكنه لم يظهر مرة بغير تأثير كما ظهر في خطابه
ذاك، ليس لأنه بات فاقداً المنطلقات الأخلاقية في الدفاع عن المظلومين بعد التورط بدم
السوريين فحسب، وإنما لأن ما يقوله يناقض ما ينبض به إحساس الجمع الأعظم من أبناء الأمتين
العربية والإسلامية، وهم يرون ويسمعون ويقعون ضحايا المشروع الإيراني.
لم يكن نصر الله قادراً على التهديد
هذه المرة، لا باسمه ولا باسم إيران. لم يكشف عن "مفاجآت"، ولم يعلن عن خطوات
سيقوم بها. انحصر الأثر المادي للخطاب على تحميس الأنصار على مزيد من الكراهية، أما
الآخرون، فلم يكن يعوزهم أكثر من ترداد قوله تعالى: "أتأمرون الناس بالبر وتنسون
أنفسكم". ينطبق هذا الحكم على الخطاب الديني لنصر الله كما ينطبق على الخطاب السياسي.
خطاب ديني وسياسي فاقد للمصداقية
التحذير باسم الدين أن "أي إنسان
في العالم يرضى بهذه الحرب هو شريك فيها، شريك في إثمها يوم القيامة... وهذا ينسحب
أيضاً على تلك الجهات العلمائية التي تريد أن تُضفي شرعية على هذه الحرب" (نصر
الله- 28-3-2015). أليس أكثر ما ينطبق هذا التحذير على قتل السوريين، والوقوف إلى جانب
طاغيتهم، الذي يمطرهم بالبراميل المتفجرة ويقصفهم بالكلور – بعدما قصفهم بالغازات السامة
قبلاً- ويعذب منهم مئات الآلاف منهم، ويشرد الملايين، وقد قتل وجرح نحو مليون سوري؟!.
أليس نصر الله شريكاً رئيساً في إدامة الأزمة وصناعة مأساة العصر. أليس هو الذي دفع
حزبه للعدوان على السوريين بدعوى "مهاجمة التكفيريين قبل أن يهاجمونا"، في
حرب استباقية؛ رفضها في معرض ضرب الحوثيين لأنه "ليس من الإنسانية بشيء، ولا من
دين الله بشيء، وإنما دين جورج بوش، أن تحاسب الناس على النوايا"؟!.
أما في الخطاب السياسي؛ فإن وضع القضية
الفلسطينية بوجه العرب لإحباطهم عن مواجهة المشروع الإيراني هو محض خداع؛ فالتقصير
العربي في مواجهة الصلف الإسرائيلي، لا يعني -ولا يجوز أن يعني- القعود عن مواجهة المشروع
الإيراني، كما أن تشكيل تحالف دولي لإعادة التوازن إلى العملية السياسية في اليمن،
لا يجوز أن يقَارَن -من حيث القدرة- بتشكيل تحالف للقضاء على "إسرائيل" المدعومة
دولياً، وفي كل الأحوال فإن إيران التي يدافع عنها نصر الله لم تفعل أكثر من خطابات
التنديد والشجب، وهي لم تفتح حرباً مع "إسرائيل" مرة، رغم أنها تردد كل يوم
شعار "الموت لإسرائيل"، تماماً كما هو نهج الحوثيين في ترداد هذا الشعار،
فيما سلاح الموت موجه إلى شركائهم في الوطن، وليس إلى أميركا ومصالحها في اليمن.
تزييف الوقائع والتاريخ
وفي الخطاب إياه؛ عوار الدفاع نفسه
يظهر في؛ اعتبار انقلاب الحوثيين "ثورة شعبية عارمة" واعتبار الثورة في سوريا
مشروعاً سعودياً-قطرياً- تركياً "أتى بوحوش الأرض، لإسقاط النظام وللهيمنة على
سوريا"، وفي مطالبة العراقيين بإعلان الجهة التي ترسل الانتحاريين إلى العراق
(يقصد السعودية) والقفز فوق إعلان حليفه نوري المالكي صراحة أن نظام بشار الأسد هو
من كان يرسل الانتحاريين لدرجة أنه أراد رفع شكوى عليه لمجلس الأمن -بعد تفجيرات بغداد
الدامية- لولا تدخل إيران (آب 2009)، وفي قوله لدول الخليج "أنتم شجعتم وحرضتم
وساعدتم ودعمتم جورج بوش من أجل احتلال العراق" قافزاً فوق وقائع مشهورة منها
قول نائب رئيس الجمهورية الإيرانية محمد علي أبطحي، من دبي مطلع العام 2004:
"لولا المساعدة الإيرانية، لما نجحت أمريكا في غزو العراق وأفغانستان"، وتصريحات
مشابهة للرئيسين خاتمي ونجاد، والسيد هاشمي رفسنجاني، وتحريم المرجعية الدينية في العراق
قتال الأمريكيين، واعتبار حزب الدعوة الذي حكم العراق بعد الغزو يوم سقوط بغداد يوماً
وطنياً (9/4/2003)، وتكريم رئيس الحكومة إبراهيم الجعفري (يحمل الجنسية الإيرانية)
دونالد رامسفيلد، المتورط في فضيحة سجن أبو غريب، وإهدائه سيف الإمام علي، وصولاً إلى
تشكيل فرق الموت الطائفية.
ومثل ذلك يقال في نفي نصر الله التدخل
الإيراني في العراق ثم قوله بعد ذلك: "عندما هجمت داعش وانهارت أمامها المحافظات...
إيران أول من بادر لمساعدة الشعب العراقي وأرسل فلذات أكباده وأرسل المال والسلاح والذخيرة
والخبراء ولم ينتظر أحداً في هذه الدنيا"، وفي ذمه التفاهم العربي مع أميركا،
وقبوله بالتفاوض الإيراني معها على مصير المنطقة، ومن ثم وجود مستشاريها جنباً إلى
جنب مع الأمريكيين، في قتالهم داعش في العراق، وصولاً إلى الاستنجاد بالطيران الأميركي
بعد هزيمة الميليشيات التي يقودها قاسم سليماني على أبواب تكريت.
الوقائع التي قفز عنها نصر الله أكثر
من أن تحصى في مقالة واحدة، فالخطر الإيراني في اليمن ليس وهماً ولا تفتيشاً في النوايا.
النائب عن طهران في البرلمان الإيراني، علي رضا زاكاني، المقرب من المرشد الإيراني
علي خامنئي هو الذي قال: "ثورة الحوثيين في اليمن هي امتداد للثورة الخمينية"،
وهو نفسه قال بعد سقوط صنعاء بيد الحوثيين إنها "رابع عاصمة عربية تسقط بيد إيران
(بعد بيروت ودمشق وبغداد)" (22/9/2014)، وأمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني
الجنرال علي شمخاني هو من قال: "إن إيران منعت سقوط بغداد ودمشق وأربيل بأيدي
متطرفي داعش، وقد باتت إيران الآن على ضفاف المتوسط وباب المندب" (10/3/2015)،
والحوثيون أنفسهم مَن أعلنوا عن مناورة على حدود المملكة العربية السعودية قبل أيام
واعتبروها: "رسالة واضحة لمن يريد أن يعبث باستقرار وأمن البلاد من القوى الداخلية
والخارجية"، كما أن أحد أشهر أعضاء المكتب السياسي لجماعة الحوثي محمد البخيتي،
هو من أعلن عبر قناة "الجزيرة" لدى تعليقه على كلام وزير الخارجية السعودي:
"إن درع الجزيرة جيش كبسة، وإن الحوثيين سيحررون نجد والحجاز"
(22/3/2015).
كما أن الحديث عن الحوثيين بوصفهم
جماعة سياسية؛ مغالطة كبيرة بحد ذاته، فجماعة الحوثي ميليشيا ابتلعت الجيش اليمني بعد
التحالف مع الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح، وجرائمهم في اليمن جعلت الناس ترقص في
الشوارع فرحاً ببدء الغارات عليهم، وعلى سبيل المثال لا الحصر، ووفق منظمات حقوقية
دولية؛ فقد قتل الحوثيون أسراهم في اليمن بدم بارد، ونهبوا أملاكاً عامة وخاصة، وخطفوا
وزراء، وحبسوا رئيس البلاد، ودمروا عشرات دور تحفيظ القرآن الكريم لأسباب مذهبية، واقتحموا
مساجد وفرضوا معتقدهم عليها، وأطلقوا النار وقتلوا وجرحوا وخطفوا عشرات الشبان السلميين
في تعز.
وفوق التناقضات والقفز عن الوقائع؛
امتلأ خطاب نصر الله بما لا يستلزم شرحاً لبيان عدم انطباقه على الواقع؛ لعل أوضحه
زعمه أن: "عدد الإيرانيين في سوريا هو عدد محدود جداً، على ذمتي؛ لا يصلون إلى
الخمسين نفراً"! أو ادعاءه أنه: "من الطبيعي أن يصبح هناك احترام لإيران
في سوريا"، أو قوله لحركات المقاومة "هل طلبت منكم إيران في يوم من الأيام
قراراً، أو أملت عليكم موقفاً" (الجدال حول زيارة خالد مشعل لإيران وقائمة الشروط،
ومن قبلها اشتراطات المال التي أعلنها محمود الزهار... مشهورة في الإعلام).
للحق؛ فإن الغالبية العربية الساحقة
كانت تراكم المعطيات التي جعلتها يائسة من إمكان قيام أية عملية لإيقاف السرطان الإيراني
في جسد الأمة، حتى كانت "عاصفة الحزم"، ما يفسر أن "الهاشتاغ"
المؤيد لها أصبح في يوم واحد؛ الأول عربياً والثاني عالمياً. صوت نصر الله المعاكس
لم يزده إلا انعزالاً عن ضمير الأمة، وحجج دفاعه فضحته أكثر من السابق، وتمجيده إيران
في الوقت التي أصبحت في نظر كثيرين عدواً زاده هبوطاً، وقد صدق حينما قال بلسانه في
الخطاب إياه: "دائماً في التاريخ الغزاة يهزمون، والغزاة تلحق بهم المذلة".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق