نعتز نحن جيل الأربعينيات والخمسينيات
أننا عاصرنا قامات وطنية فريدة، وعشنا مفردات حياتنا نتغنى بقصص مواقفهم البطولية
التي لا تنسى، والتي تستحق التدوين بماء الذهب قياساً بحالة هذا الزمن الرديء، وقد
قصرت قامات الرجال وخبا بريق الرجولة فيها.. نقلب صفحات التاريخ وسير الأعلام
لنتلمس بعض ما نعتز به وقد أدمت مواقف رجال اليوم قلوبنا وكسرت شوكة عزنا وعفرت
بالتراب جباهنا.. فنجد ما يعيد لنا التفاؤل في أن تلد أرحام نسائنا رجال كهؤلاء
الرجال الذين كانت قاماتهم لا تنحني إلا للواحد القهار ولا تسجد جباههم إلا للعزيز
الجبار. قصص مشرقة تستحق منا استذكارها في كل مناسبة ونحن نعيش خيبة آمال شعوبنا
بحكامهم أنصاف الرجال.
ومن هذه القصص الرائعة:
دخل فارس الخوري ممثل سورية
في الأمم المتحدة بطربوشه الأحمر و بذته البيضاء الأنيقة قبل موعد الاجتماع الذي
طلبته سورية من أجل رفع الانتداب الفرنسي عنها بدقائق، واتجه مباشرة إلى مقعد
المندوب الفرنسي لدى الأمم المتحدة، وجلس على الكرسي المخصص لفرنسا.. بدأ السفراء
بالتوافد إلى مقر الأمم المتحدة ولم يستطيعوا إخفاء دهشتهم من جلوس فارس الخوري (وهو
أحد مؤسسي الأمم المتحدة وواضعي نظامها والعارف ببروتوكول المقاعد المخصصة)،
والمعروف برجاحة عقله وسعة علمه وثقافته، في المقعد المخصص للمندوب الفرنسي، تاركاً
المقعد المخصص لسورية فارغاً.
دخل المندوب الفرنسي ووجد
فارس الخوري يحتل مقعد فرنسا في الجلسة، فتوجه إليه وبدأ يخبره أن هذا المقعد مخصص
لفرنسا، ولهذا وُضع أمامه علم فرنسا، وأشار له إلى مكان وجود مقعد سورية، مستدلاً
عليه بعلم سورية. ولكن فارس الخوري لم يحرك ساكناً بل بقي ينظر إلى ساعته..
دقيقة.. اثنتان.. خمسة.. استمر المندوب الفرنسي في محاولة إفهام فارس الخوري بأنه
يجلس في مكان فرنسا، وأنه يجب عليه تركه بسرعة.. ولكن فارس الخوري استمر بالتحديق
في ساعته: عشر دقائق.. أحد عشرة.. اثنتا عشرة دقيقة.. وبدأ صبر المندوب الفرنسي
بالنفاذ، فرفع صوته في وجه فارس الخوري مطالباً بترك مقعد فرنسا، ولكن فارس الخوري
استمر بالتحديق في ساعته: تسع عشرة دقيقة.. عشرون.. واحد وعشرون.. فغضب المندوب
الفرنسي وحاول التهجم على فارس الخوري لولا حؤول سفراء الأمم الاخرى بينه و بين
فارس الخور .. وعند الدقيقة الخامسة والعشرين تنحنح فارس الخوري ووضع ساعته في جيب
سترته، ووقف بابتسامة عريضة تعلو شفاهه وقال للمندوب الفرنسي: "سعادة السفير..
جلست على مقعدك لمدة خمس وعشرين دقيقة فكدت تقتلني غضباً وحنقاً.. وقد استحملت
سورية سفالة جنودكم خمس وعشرين سنة.. و آن لها أن تستقل".. وفي هذه الجلسة..
نالت سورية استقلالها.
ومن هذه القصص المشرفة موقف وزير
الخارجية السوري جميل مردم بك تجاه المندوب السامي، ولمّا تكن جيوش فرنسا قد خرجت
من سورية بعد.
ففي صباح يوم السادس والعشرين من شهر
أيار عام 1945م شهدت شوارع دمشق موكباً
عسكرياً حافلاً، يخترق شوارع دمشق محيطاً بسيارة فاخرة تحمل العلم الفرنسي، ويصل
الموكب إلى وزارة الخارجية السورية، ونزل من السيارة
الجنرال (بينيه) المفوض السامي للحكومة الفرنسية منذ آذار عام 1944م.
وقصد الجنرال مكتب وزير الخارجية
آنذاك جميل مردم بك دون موعد أو
استئذان، ولم يفاجأ الوزير بدخول
الجنرال الفرنسي لأن الضوضاء التي أحدثها هو وموكبه
الحافل، لفتت انتباه الوزير فاتجه إلى النافذة ليرى ثكنة عسكرية بحالها قد انتقلت
إلى أمام وزارته.
وألقى الجنرال تحية الصباح على الوزير
مردم بك، الذي رد
عليه بكل برودة أعصاب وفتور وهو يشغل
نفسه ببعض الأوراق التي كانت على مكتبه، فتقدم الجنرال
للوزير بمذكرة تتضمن مطالب فرنسية من الحكومة السورية، فتناولها مردم بك وأخذ
يقرأها بكل هدوء.
وبعد مرور قرابة ربع الساعة قال
الوزير: إن سورية لا
تستطيع قبول ما جاء في المذكرة، فرد
عليه الجنرال وهل تستطيع سورية عدم القبول وابتسم
بسخرية قائلاً: هل تعتقد سورية أنها دولة مستقلة لكي ترفض طلبات فرنسا؟ فابتسم
مردم بك هو الآخر بسخرية قائلاً: وهل تعتقد فرنسا نفسها أنها دولة عظمى لكي توجه
هذه المذكرة إلى سورية؟
وأشار الوزير إلى باب مكتبه قائلاً:
اخرج من مكتبي، وعقدت الدهشة لسان الجنرال، ولم ينطق بكلمة واحدة، إنما لملم
نفسه وخرج من وزارة الخارجية السورية مهزوماً منكسراً.
وأدرك الوزير مردم بك أن هذه الحادثة
سيكون لها ذيولها، ولا بد من وضع
رئيس الجمهورية بصورة هذه الواقعة،
فتناول سماعة الهاتف يطلب الرئيس شكري القوتلي، وقصَّ
الوزير على الرئيس ما حدث.
فقال القوتلي للوزير غاضباً: أنت
غلطان.. فعقدت الدهشة لسان الوزير وأحسّ بفداحة الأمر وأن هنالك مصيبة قد وقعت. فقال
للرئيس القوتلي: ولكن المندوب الفرنسي أهان بلدي. فأعاد
القوتلي قوله: أنت غلطان..
وأردف الرئيس الغاضب قائلاً: غلطان
لأنك لم تقطع
رقبته، أو على الأقل أن تأمر بإلقائه
من أعلى درج الوزارة.
ما جعلنا نستذكر تلك القامات الوطنية
موقف وليد جنبلاط الشجاع وهو يدلي بشهادته أما المحكمة الدولية الخاصة باغتيال
رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، والتي يستحق عليها التقدير والاحترام، غير
آبه بما سيترتب على شهادته وهو العارف بإجرام النظام الاسوري وحليفه حزب الله الذي
يهيمن على كل لبنان ومفاصل الدولة فيه.
فقد روى في هذه الشهادة وقائع اغتيال والده الزعيم الراحل كمال جنبلاط على يد
النظام السوري، ثم قوله إنه اضطرّ الى عقد تسوية مع قتلة أبيه.
وهكذا شكّلت شهادة جنبلاط كشفاً شاملاً لخفايا مرحلة الوصاية السورية في
لبنان، والتي حرص على تسميتها "احتلالا" حقيقياً. فتحدث عن دور رئيس
الجمهورية في تلك الحقبة إميل لحود الذي كان أداة للنظام السوري في لبنان، وعن
الصراع الذي خاضه في موضوع التمديد له. وروى وقائع "استدعاء الحريري الى دمشق
في العام 2003 الذي كان بمثابة إنذار له، اذ قال له بشار: أنا من يحكم هنا وليس
غيري، وطلب منه بيع الاسهم التي يملكها في جريدة النهار، وهي الصحيفة التي شهدت
لاحقا اغتيال مالكها النائب جبران تويني وأحد أبرز كتابها المعارضين للنظام السوري
سمير قصير.
ثم تناول جنبلاط وقائع اللقاء الشهير عشية التمديد للحود، حيث اعتبر ان كلام
الاسد للحريري خلاله شكل تهديداً سياسياً وجسدياً، فنصحه بالتصويت للتمديد من أجل
سلامته.
وفي اليوم الثاني من إدلائه بشهادته، قال جنبلاط إنه بعد التمديد للحود، حرص
على توسيع رقعة المعارضة للوجود السوري، مؤكدا أنه "تشارك والرئيس الحريري
القناعة نفسها بضرورة الانسحاب السوري وفق الطائف. وقال: يوم اغتيال الرئيس
الحريري اجتمعنا واتخذنا قرارا مطلقا بمواجهة النظام السوري ورئيسه.
وتطرق إلى محاولة اغتيال النائب مروان حمادة، فقال: يوم تعرض مروان حمادة إلى
محاولة اغتيال اتصل بي حكمت الشهابي (رئيس الوزراء السوري الأسبق) من فرنسا وقال
لي انتبه يا وليد، وكن حذراً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق