لعل
أول ما يلفتنا في القرآن الكريم تلك الدعوة التي تتكرر في آيات عديدة إلى التبصر
بأحوال الأمم السابقة لكي نتعرف من خلال مسيرتها على سنن النهوض الحضاري فنأخذ
بها، ونتعرف على سنن السقوط فنجتهد في تجنبها، وقد كان لهذه التوجيهات الإلهية
الحكيمة أثر حاسم في تحقيق تلك النهضة الحضارية الإسلامية العظيمة التي لم يعرف
التاريخ مثيلاً لها، والتي تحقق خلال فترة وجيزة جداً من عمر الزمان لم تتجاوز
عشرات من العقود والسنوات!
فالتاريخ
بمنظور القرآن الكريم هو المختبر الحقيقي لصواب الفعل البشري، وهو المصدر الأساسي
للفقه الحضاري، ويؤكد القرآن الكريم على أن اكتشاف سنن الله في الخلق هي من لوازم
البناء الحضاري الصحيح.
ويلفتنا
القرآن الكريم كذلك في العديد من الآيات إلى أن خالق هذا العالم سبحانه قد جعل في
هذا الكون سنناً (= قوانين) تحكم كل ما فيه من مخلوقات وظواهر، وهو ما يعرف في
العلوم بـ (قانون السببية) أي علاقة الأسباب بالمسبَّبات، وقد سبق للإمام محمد
عبده أن وقف عند قوله تعالى: "قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض
فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين" سورة آل عمران 137، فتمنى على العقل
المسلم أن يستخرج من القرآن الكريم علماً جديداً هو "علم الاجتماع الديني"
الذي يستخلص سنن التقدم والتخلف، والنهوض والانحطاط، والقوة والضعف، في الأمم
والحضارات والدعوات، لكي يكون هذا العلم دليل عمل في محاولات النهوض والتقدم
والانعتاق ، وكم نحن اليوم في هذا الزمن العصيب بحاجة ماسة إلى هذا العلم، بعد أن
فقدت أمتنا العربية والإسلامية فعاليتها ومنهجيتها وصوابها، وتعطلت عن شراكتها
الحضارية، وتوقفت عن السير في الأرض والتبصر بالسنن التي تحكم حركة الحياة
والمجتمعات، وأمست عاجزة عن التقويم والمراجعة ومعرفة أسباب القصور، وتحديد مواطن
الخلل والتقصير .. وكادت تخرج من التاريخ!
ومن
خلال استقرائنا الطويل والعميق لتاريخ الإنسان فوق هذه الأرض[1]
وجدنا أن أهم ما يعنيه حمل الإنسان للأمانة ـ التي ورد ذكرها في القرآن الكريم ـ
هو منح الإنسان القدرات العقلية التي تمكنه من القيام بهذه المهمة الجليلة، فإنه
بهذه القدرات ـ التي امتاز بها عن بقية المخلوقات ـ تمكن من استكشاف العالم،
واستطاع فهم الكثير من السنن التي تحكـم هذا الوجود، واستطاع إنجاز ما عجز عن
إنجازه بقية الخلق، ولولا هذه القدرات الفريدة التي وهبه الله إياها لظل عاطلاً عن
الفعل الحضاري، ولظل مثله مثل أي مخلوق آخر في هذا الوجود غير قادر على تغيير شيء
في هذا العالم، ولما كانت حاله بأحسن من حال بقية الحيوانات التي خلقها الله عز
وجل قبل الإنسان بملايين السنين، لكنها على الرغم من هذه الفترة المديدة لم تتمكن
من صنع رغيف خبز، بينما استطاع الإنسان بالمقابل أن يسخر هذه الحيوانات لخدمته، مع
أن بينها مخلوقات أقوى منه وأكثر عدداً بما لا يقاس !
بل
إن الإنسان استطاع بتلك المواهب العقلية التي تفرد بها أن يسخر كل ما وصلت إليه
يده من مخلوقات وظواهر، بل وكثيراً مما لم تصل إليه يده ووصلت إليها أجهزته، كالمركبات
الفضائية مثلاً التي وصلت إلى الكواكب النائية وبدأت تغير فيها، وقد تم له ذلك كله
خلال سنوات قصيرة جداً من عمر الزمان مقارنة بتلك الدهور المديدة التي مرت على
بقية المخلوقات الحية ولم تستطع أن تغير من حالها أو مما حولها شيئاً، وهذا ما
يؤكد لنا أهمية كشف سنن الله في خلقه، ودورها في البناء الحضاري.
وإن
مما نأسف له أن هذه الحقيقة على الرغم من وضوحها كالشمس فإن دراسة سنن الله في
الخلق لم تلق حتى اليوم الاهتمام اللائق به من قبل العلماء والمفكرين والباحثين
المسلمين، وبخاصة منهم الذين ينتمون إلى الجماعات الإسلامية المعاصرة التي مازالت
منذ قرن من الزمان أو يزيد تعمل جاهدة على بدء دورة حضارية جديدة لنقل المجتمع من
حالة الضعف والجهل والتخلف والتبعية إلى حال القوة والتمكين، والعلم والسيادة
والاستقلال ، والالتزام بشريعة الله!
وقد
أدى إغفال دور السنن في الجهد البشري من قبل هذه الجماعات وغيرها من الجماعات
والأحزاب التي تتبنى فكرة التغيير إلى جعل التكوين الفكري لهذه الجماعات والأحزاب
أقرب إلى المثالية النظرية منه إلى الواقعية العملية، كما جعل غالبية الجماعات
والأحزاب ـ إن لم نقل كلها ـ تدور في حلقات مفرغة لا تدري كيف تخرج منها، فهي من
جهة تحس بالأزمة، لكنها من جهة أخرى لم تتقن كيفية التعامل مع هذه الأزمة، والخروج
منها بحلول واقعية تقوم على أسس راسخة من العلم بسنن التغيير!
وربما
ساهم في تعقيد الأزمة ، وترسيخ هذا الوضع المؤسف، أن معظم المناهج الفكرية التي
سارت عليها تلك الجماعات والأحزاب عمدت إلى تناول القضايا بعقلية ذرائعية تميل إلى
منطق التبرير والاستسهال، فما أسهل أن نتذرع بأسباب خارجة عنا لكي ننفي عن أنفسنا
مسؤولية ما وقعنا فيه من خطأ أو قصور، وما أيسر أن نرد النتائج المخيبة للآمال إلى
قضاء الله وقدره، وكأن مثل هذا الرد يعفينا من المسؤولية أمام الله عزَّ وجلَّ،
وأما بذل الجهد في البحث الدؤوب عن جذور الأزمة، ومعرفة أسبابها، وتحليل
ملابساتها، فليس هذا كله من شأننا .. فتأمل!
ولعلنا
في هذا الحديث حول مفهوم السنن الإلهية ودورها في البناء الحضاري نقترب خطوة من
نقطة البداية في تناول هذه الأزمة، ولعل هذه الوقفة تعيننا على فهم طبيعة الأزمة
التي تعيشها أمتنا الإسلامية اليوم، وترشدنا إلى الطريقة العملية لنتجاوز العقبات
التي تحول دون تفكيك هذه الأزمة، والخروج من متاهاتها، والإقلاع نحو دورة حضارية
جديدة.. وللحديث بقية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق