لما فتح رسول الله صلى
الله عليه وسلم مكة في الثامن من رمضان
عام ثمانٍ للهجرة سمعت هوازن بهذا الفتح العظيم، فقال مالك بن عوف النصري
لقبائلها: هذا محمدٌ فتح مكة، ولا يمنعه أحد من غزونا، فلنغزُهُ قبل أن يغزوَنا، فأجابوه
إلى ما يريد، وانطلقوا نحو مكة إلا قبيلتي كعب وكلاب.
وكان الشاعر الفارس دريد
بن الصمّة من قبيلة جشم، وهو إذ ذاك شيخ كبير لا يمكنه القتال، لكنه خرج معهم
للاستئناس برأيه، والتَّيمن بمعرفته الحرب، فلما وصلوا بجمعهم إلى (أوطاس) على
ليلة من مكة قال دريد: بأي أرض أنتم؟ قالوا: بأوطاس، قال: نِعْمَ مجالُ الخيل،
مكان واسع ممتد ليس فيه صخور تعيق الحركة، ولا أملس ناعماً يزعج الخيل، ولكنني
أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، ويعار الشاء، وبكاء الصغير قالوا: ساق مالكٌ مع
الناس أبناءهم ونساءهم وأموالهم، قال: يا مالك ما الذي حَمَلَكَ على هذا؟
قال: سقتهم مع الناس
ليقاتل كل إنسان عن حريمه، وماله.
قال دريد متهكماً: راعي
ضأن والله (أي لا يفهم إلا في الرعي، أما قيادة الجيش فليس من أهلها) هل يردُّ
المنهزمَ شيءٌ؟ إن المعركة إن كانت لك لم ينفعك فيها إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن
كانت عليك فرّ المقاتلون وسبى محمدٌ نساءك وأخذ أموالك، فكان العار ملازماً لك، يا
مالكُ أعدْ من معك إلى بلادهم، ثم القَ المسلمين على متون الخيل، فإن انتصرت لحق
بك النساء والأولاد والمال، وإن هُزمت فقد احتفظت بأهلك ومالك.
قال مالكٌ: رجلٌ كبير
خَرّفَ، والله لا أستمع إليه.
قال دريد: أين قبيلتا كعب
وكلاب.
قالوا له: لم تلحقا بنا
ورغبتا عن الحرب.
قال دريد: لقد أحسنتا
صنعاً، فلم تسلما قيادهما لغرٍّ جاهل ليس له في الحروب دراية. وددت يا بني جُشَم
أن تفعلوا فعلتهما.
فلما خاف مالك بن عوف
انفضاض الناس عنه والعملَ بما قاله دريد أمسك بسيفه وقال: والله لتطيعُنَّني يا
معشر هوازن أو لأتكئنَّ على هذا السيف حتى يخرج من ظهري.
قال دريد: هذا يوم لم
أشهده – لم أحارب فيه – وما فاتني، فأنا موجود غير محارب.
قال مالك: إذا رأيتم القوم
– المسلمين – فاكسروا أغماد سيوفكم وشدّوا عليهم شدة رجل واحد.
وأرسل عيونه يرصدون النبي صلى
الله عليه وسلم وجيشه فعادوا وقد تفرقت
أوصالهم خوفاً.
قالوا: إنا رأينا رجالاً
بيضاً على خيل بيض، فوالله ما تماسكنا أنْ خفنا – ولعلهم رأوا الملائكة على هذه
الهيئة – فلم يحفل مالكٌ بما قالوا.
ولما بلغ رسولَ الله صلى
الله عليه وسلم خبرُهم، أجمع المسير
إليهم، واستعار من صفوانَ بن أمية مئة درع وسلاح، ثم سار إلى المشركين بعشَرة آلافٍ
هم جيشه، وألفين ممن أسلموا بعد الفتح، فكان العدد اثني عشر ألفاً.
قال أحد المسلمين: لن نغلب
اليوم من قلةٍ، وهذا يدل على ضعف الإيمان، فالنصرُ من عند الله، وليس بسبب الكثرة:
فكم من فئة مؤمنة قليلة العدد انتصرت على جيش أكبر منها بكثير.
فلما قال الناس مثل ما
قال: أراد الله تعالى أن يعلمهم كيف يتَّكلون عليه، لا على أنفسهم، فخسروا المعركة
في أولها ليعودوا إلى الله ويتوكلوا عليه فينصرهم، وذلك قوله تعالى: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ
شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ
(25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ
جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ
(26) .
وانحدر المسلمون في وادي
حنين في عماية الصبح، وكانت هوازن قد سبقتهم إلى الوادي فكمَنت في شِعابه ومضايقه،
فلما صار المسلمون بينهم، شدوا عليهم شدة رجل واحد، وفوجئ المسلمون فهربوا، لا
يلوي أحد على أحد، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم النبي الشجاع الذي لا يعرف الخوفُ إليه سبيلاً
فقد انحاز إلى يمينه، ثم قال: ((أيها الناس! هلموا إليَّ أنا رسول الله)) (قالها
ثلاثاً) فما سمعه سوى نفر من المسلمين، منهم أبو بكر وعمرُ وعليٌّ والعباسُ وأبو
سفيان.
وكان العباس آخذا بلجام
بغلة النبي صلى الله عليه وسلم (دُلْدُل)،
وكان جسيماً شديدَ الصوت فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ((يا عباس نادِ
الأنصارَ أصحاب السَّمُرة)) (أيْ أصحاب بيعة الرضوان، وكانت عند هذه الشجرة)،
فنادى بأعلى صوته: أين أصحاب السَّمُرة؟ قالوا: لبيك لبيك، فوالله إن سُرعة
إجابتهم حين سمعوا صوته عطفةُ البقر على أولادها، وسَرعان ما اجتمع حوله مئة رجل
فاستقبل بهم القوم وقاتلهم، فلما رأى شدة القتال قال:
أنا النبيّ، لا كذبْ ... أنا
ابن عبد المطّلبْ
وقال النبي صلى الله عليه
وسلم لبغلته دلدل: ((البَدي دلدل))، فوضعت
بطنها على الأرض، فتناول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم حُصَيّاتٍ صغاراً فرمى بهنَّ في وجوه الكفار –
ثم قال - : ((انهزموا وربّ الكعبة))، ما أعظم الثقة بالله، والركون إليه.
قال العباس: فوصل التراب
إلى عيني كل كافر – إنها معجزة ربانية – وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى ، ولم يلبث الكفار أن تهاوَوا أسارى ضِعافاً،
والمسلمون يقيّدونهم ويغنمون أموالهم وذراريهم ونساءَهم.
رياض الصالحين
كتاب المنثورات والملح
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق