لم تعدِ «الأنظمة
العربيَّة» إلا رسومًا لرموزها تتصدَّر الجدران واللافتات، وتعبيرًا رائعًا عن
أساليب القمع والقتل والتَّدمير، وحماية شخوصها من ومضة حركةٍ شعبيَّة، أو كلمات ينبضُ
بعض حروفها بمعالم الحياة الإنسانيَّة عبر بوابة الحريّة والكرامة.
لقد ظلَّت «الشُّعوب
العربيَّة» تعيش في كنف أنظمتها التي تمنُّ عليها نعمةَ لقمة العيش، وما يرافقها
من فتات الأمن والأمان ما دام المرء منهم بعيدًا عن دهاليز «السَّياسة» ورجالاتها،
فإن اقترب من فتيلها تحوَّل الأمن والأمان إلى نار حارقة لا تبقي ولا تذر، وأصبحَ
مع أهله وعشيرته وأقرانه هشيمًا تذروه الرِّياح بين عشيَّة أو ضحاها.
شهدَ العصر
العربيّ الحديث تحوَّلات جذريَّة على الصَّعيد الإنسانيّ الذي كاد أن ينسى أنَّه
من سلالة آدم، أو نوع من أنواع البشر؛ لأنَّه بالنِّسبة إلى «الأنظمة» التي تحكمه
مجرَّد رقم بين ملايين الأرقام التي صُودرت عقولها، وأفكارها، وآراؤها لتتجسَّم في
شخصيَّة «الأب القائد»، أو «القائد الخالد»، أو «الملك العظيم»، في صورة من أبشع
صور المسخ البشريّ على الإطلاق، ولا تكاد تفقه إلا حركةَ اليدين تصفيقًا للتَّعبير
عن الرِّضا بما تقرُّه «الأنظمة» سواء أكان خيرًا وهو معدوم، أو كان شرًّا
مستطيرًا، وما أكثره، حتى أصبحت «الدَّولة» كيانًا مرتكزًا على هذه الشَّخصيَّة،
فإذا ما مالت، أو مادت، أو بادتْ ظنَّت «الشُّعوب» أنَّها ذاهبةٌ إلى زوال.
ولقد بقيتْ
هذه النَّظرة راسخة في الأذهان حتى بداية «الحراك الشَّعبيّ العربيّ»، وإن كانت لا
تزال ثابتةً لا تتزحزح لدى الكثيرين على الرَّغم من المآسي التي شهدتها وستشهدها
عيونُ «الشُّعوب العربيَّة» في أحلك الظُّروف وأصعبها؛ وأثبتتْ هذه «الأنظمة»
بالدَّليل والبرهان، والتَّجربة أنَّها أدوات تنفيذيَّة ساهمت في تحقيق أعظم مأساة
تمثَّلت في قهر الشُّعوب، وقتلها، والتَّنكيل بها، والنَّظر إليها على أنَّها
وسيلة تجاريَّة يرتفع ثمنها أو ينخفض طبقًا للعرض والطَّلب السِّياسيّ.
وعلى الرَّغم
من محاولات التَّحريف والتِّضليل التي تنتهجها بعض هذه «الأنظمة» من أجل تلميع
صورتها، وإبعاد التُّهمة عنها فإنَّها قد باءت جميعها بالفشل، ولم تنجح إلا في
استمرارها كأداة «إرهابيَّة» تكبتُ الحسَّ الإنسانيَّ العربيّ، ولم تلفح «جامعة
الدُّول العربيَّة» التي من المفترض أن تكون ملاذًا آمنًا، وبوابةَ الحلِّ لأيّ
معضلة سياسيَّة قد تطرًأ على الشُّعوب، لم تلفح في أن تحقِّق الحدَّ الأدنى من
التَّخفيف عن هذه الشُّعوب ممَّا ينالها من إجرام أنظمتها وإرهابها.
بل إنَّ
عبارات «الشَّجب»، و«التَّنديد»، و«الاستنكار» التي كانت تمثِّل بالنِّسبة إلى
المقهورين والمظلومين متنفَّسًا ينسَون من خلاله بعض ما أصابهم لم يعد مسموعًا
منها؛ لأنَّها تسير في الخطِّ نفسه الذي عليه «الأنظمة العربيَّة»، أي: إنَّ «جامعة الدُّول العربيَّة» مجرَّد
نظامٍ «غوغائيّ»، ومنبر إعلاميّ يعكس صورة «الأنظمة» القائمة.
ونتيجة لذلك
فقد انعدمتْ الثِّقة، واتَّسعت الفجوة بين «الشُّعوب» و«أنظمتها» ممَّا دفع
الطَّرفين إلى البحث عن حليف ثالث، يكون سندًا لها على الآخر، وإن كان على حساب
بعض المبادئ التي طالما تشرَّبتها «الشَّعوب»، ونادت بها «الأنظمة»، فأصبحت الأرض
مستباحةً لكلِّ من يدَّعي أنَّه حليف أو داعم أو مساند.
ونجدُ في
الوقت ذاته من ينصِّبُ نفسه وسيطًا بين «الشَّعوب» و«أنظمتها» من خلال ما يطرحه من
حلَّ «سياسيّ» قد يعيد ما فات، ويقرِّبُ المسافات، متجاهلاً عمدًا حقيقة هذه «الأنظمة»،
و«المأساة» التي حاقت بالشُّعوب نتيجة سطوة حكَّامها، و«عصابة الإرهاب» التي تحيط
بهم لتكوِّن في مجموعها «منظومة أمنيَّة» هدفهُا فصل «الرَّأس» عن «الجسد» إذا ما
طالب بأدنى مقوِّماته البشريَّة.
وأرى أنّ الحلَّ لن يكون إلا من خلال استنباط
نظام بشريّ جديد من رحم «الشُّعوب» ذاتها، بعد أن تدرك هذه ا«الشُّعوب» حقيقتها
وجوهرها، وأنَّها الأساس الذي تُبنى عليه «دولتهم»، وأنَّهم المسؤولون أولاً
وأخيرًا عن أمنها وأمانها، وأنَّهم وحدَهم من يتكفَّل ببناء مؤسَّساتها، وما «النِّظام»
الجديد إلا صورة تعكس آمالهم وآلامهم، وتعبِّر عن تطلُّعاتهم في تحقيق حريَّتهم
وكرامتهم التي دفعوا من أجلها دماء الملايين من أبنائهم وأهلهم.
د. محمد عناد سليمان
22 / 3 / 2015م
22 / 3 / 2015م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق