أشرنا في مقال
سابقٍ إلى أنَّ «القرآن الكريم» قد تضمَّن
ما وردَ في الكتب السَّابقة كـ«التَّوراة»، و«الإنجيل»، ولم تخلُ كتبُ المفسِّرين
الأوائل من أخبار وراويات تؤيِّد ذلك وتدعمه، منها أنَّه تضمَّن تصحيحًا لكثير ممَّا اختلفت فيه «بنو إسرائيل» فقال تعالى: ]إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي
إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} النمل76، ولا شكَّ أنَّ
هذا دليلا واضحًا على وجود بعض ما جاء في «التَّوراة»، وجعلوا ذلك من معجزات «القرآن
الكريم» نفسه فقال «الرَّازيّ»: «إنَّ الأقاصيص المذكورة في القرآن موافقة لما
كانت مذكورة في التَّوراة والإنجيل»، وقال «القرطبيُّ»: «إنَّ هذا القرآن يبيِّنُ
لهم ما اختلفوا فيه لو أخذوا به، وذلك ما حرَّفوه من التَّوراة والإنجيل، وما سقط
من كتبهم من الإحكام»، ونظيره قول «أبي حيَّان»: «ومن جملة إعجازه إخباره بما
تضمَّن من القصص الموافق لما في التَّوراة والإنجيل».
واعتمادًا على ما رجَّحناه من ذلك، فإنَّ هذا يعني بالضَّرورة وجود بعض ما
يدلُّ على لغات الأمم السَّابقة التي تحدَّثت عنها «الآيات» في «القرآن الكريم»، وإنَّ
بعض هذه «القصص» قد حكاها «القرآن» بألفاظها التي استُخدمِت في عصرها وزمانها،
وجرت على لسان شخصيَّاتها.
ونحاول في هذا المقال القصير أن نبرهنَ صحَّة ذلك، اعتمادًا على منهجنا في «تفسير
القرآن بالقرآن»، وما يعضده من الرِّوايات، والأخبار التي أوردها العلماء و«المفسِّرون»،
وتناثرت بين ثنايا كتبهم، فكانت أشبه بالوثيقة التَّاريخيَّة التي تضيء جانبًا من
حياة هذه الأمم من حيث لغتُها وألفاظها.
من ذلك قوله تعالى: ]وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ
الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ
مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}يوسف23، حيث نجدُ أنَّ «امرأة
العزيز» بعد أن غلَّقت الأبواب، تريد مراودة «يوسف» u عن نفسه،
قالت: «هيتَ لك»، فهل هذه الحكاية بلفظ «هيتَ لك» جرتْ على لسانها حقيقةً؟ أم أنَّ
«القرآن الكريم» قد أجراها على لسان العرب ولغتها في ذلك؟
والمرجَّحُ عندنا أنَّها ممَّا جرى على لسان «امرأة العزيزِ» لدلالة لفظ «قالتْ»
عليه في الآية نفسها، والقول لا يمكن حمله على غير نصِّه، يؤيِّدُ ذلك ثلاثة أمور:
الأوَّل: اختلاف أهل «النَّحو
والصَّرف» في أصلها، واختلاف «القرَّاء» فيها حيث وصلت إلى سبع قراءات، بكسر الهاء
وفتح التَّاء، وفتح الهاء والتَّاء، أو ضمِّها، الهمز مكان الياء، فـ«أَهُل
المدينةِ يَقرَؤُون: هِيتَ لَك يكسرون الهَاءَ ولا يَهمزون قال
: وذُكِرَ
عن علّي وابنِ عبّاسٍ أَنهَّما قرآ: هِئْتُ لكَ، يرادُ به في المَعْنَى
تَهيَّأْتُ» وغيرها، ومن ثمَّ اختلاف «المفسِّرين» في تخريج وتأويل
هذه «القراءات».
الثَّاني: أنَّ بعضَ أهل اللُّغة
قد أشار إلى أنَّ هذه اللَّفظة ليست عربيَّة، فقد «روى
الأَزهَرِيّ عن أَبي زيد فيما نقله عنه «ابن منظور» في «لسان العرب»، و«الفيروز
آبادي» في «تاج العروس» قال: «هَيْتَ لَكَ
بالعِبْرَانية: هَيْتَا لَجْ أَي تعال أَعرَبَه القرآنُ».
الثَّالث:
أنَّ بعض «المفسِّرين» قد ذهب إلى أنَّها ليست من لغة العرب، على نحو ما يورده «القرطبيُّ»،
و«أبو حيَّان»، و«ابن كثير» عن «ابن
عبَّاس» و«الحسن» قالا: «هيت: كلمة بالسَّريانيَّة تدعوه إلى نفسها»، وقال «السُّدِّي»:
«معناها بالقبطيَّة: هلمَّ لك»، وزعم «الكسائيُّ» و«الفرَّاء» أنَّها لغة «حورانيَّة»
وهو زعم ليس بالبعيد، إذ «لا يبعد اتِّفاق اللُّغات في لفظ، فقد وجد ذلك في كلام
العرب مع لغات غيرهم» على ما يذكره «أبو حيَّان».
ولعلَّ أظهر
الأمثلة على ما نحن فيه قوله تعالى: ]إِنَّ
هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ
أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ * قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ
نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي
بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ
وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ}ص23-24، إذ
إنَّ المرجَّح أن تكون لفظ «نعجة» من لغة قوم «داود» u،
لدلالة لفظ «قال» الصَّريح فيها، والمراد بـ«النَّعجة»: «المرأة»، إذ هي اسم لها
في لغة القوم.
لكنَّنا نجدُ
بعض أهل اللُّغة قد ذهب إلى أنَّها تستخدم للكناية عن «المرأة»، فقال «ابن منظور»،
و«الفيروز آبادي»: «والعربُ تَكْني بالنَّعجة والشَّاة عن المرأَة ويسمون الثَّوْرَ الوحْشِيَّ شاةً»، وهو ما نجده أيضًا عند كثير من «المفسِّرين»،
قال «البغويّ»: «له تسع وتسعون نعجة يعني: امرأة، ولي نعجة واحدة أي: امرأة واحدة،
والعرب تكني بالنَّعجة عن المرأة»، وقال «القرطبيّ» نقلاً عن «النَّحَّاس»: «والعربُ
تكني عن المرأة بالنَّعجة والشَّاة، لما هي عليه من السُّكون والمعجزة وضعف
الجانب، وقد يكنى عنها بالبقرة والحجرة والنَّاقة». وقال «أبو حيَّان»: «النَّعجة:
الأنثى من بقر الوحش والضَّأن، ويكنى بها عن المرأة». «وقيل: وكنى بالنَّعجة عن
الزَّوجة».
وما ذهبوا
إليه بعيد، إذ إنَّ لفظ «نعجة» فيما نرجِّحه اسمٌ من أسماء «المرأة» في لغة قوم «داود»
u،
وليس كناية عنها، يدلَّنا على ذلك أمور:
أحدهُا:
أنَّ «القرآن الكريم» نفسه قد استخدم لفظة أخرى لدَّلالة على «الضَّأن» حكاية عن
قوم «داود» u،
وهي »الغَنَم» فقال تعالى: ]وَدَاوُودَ
وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ
الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ}الأنبياء78، ونظيره قوله أيضًا على
لسان «موسى» u:
]قَالَ
هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا
مَآرِبُ أُخْرَى} طه18، ممَّا يشير إلى أنَّ «نعجة» لم يكن مرادًا بها في لغتهم «الضَّأن»
أو أيَّ حيوان آخر.؛ والله تعالى أعلم.
إضافةً إلى أنَّ
بعض الأخبار تذكرُ أنَّ «داود» u
كان له تسع وتسعون امرأة، فقد أورد «الطَّبريُّ» «أنَّ داود كانت له فيما قيل تسع
وتسعون امرأ، وكانت للرّجل الذي أغزاه حتى قُتل امرأة واحدة، فلمَّا قُتل نكح فيما
ذكر داودُ امرأته».
وقد ذهب بعض
العلماء إلى أنَّ هذا العدد شرعٌ له، فقال «ابن العربيّ»: «إن كنَّ جميعهنَّ
أحرارًا فذلك شرعه، وإن كنَّ إماء فذلك شرعنا»، ويؤيِّد صحَّة العدد ما رواه «البخاريُّ»
في «صحيحه» عن النَّبيّ e
قال: «قال سليمان بن داود عليهما السَّلام: لأطوفنَّ اللّيلة على سبعين امرأة،
تلدُ كلَّ امرأة منهنَّ غلامًا يقاتل في سبيل الله، فقيل له: قل: إن شاء الله، فلم
يقل، فطاف بهنَّ، فلم تلد منهنَّ إلا امرأة واحدة نصف إنسان»، ولا شكّ أنَّ مثل
هذا الحديث فيه نظر، وبعضه لا يصحُّ، وإنَّما أوردناه لموضع الشَّاهد فيه من حيث
العدد.
ومنها:
أنَّ «القرآن الكريم» استخدم لفظة أخرى للدَّلالة على الحيوان فذكر «الضَّأن»
صراحةً فقال تعالى: ]ثَمَانِيَةَ
أَزْوَاجٍ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ
آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ
الأُنثَيَيْنِ نَبِّؤُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}الأنعام143.
ومنها:
أنَّ الله عزَّ وجلَّ قد ذكر بعض الحيوانات بالأسماء ذاتها ولم تتغيَّر في «القرآن
الكريم» في أكثر من موضع، كـ«الحمار» في قوله تعالى: ]مَثَلُ
الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ
يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ
اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}الجمعة5، وقوله أيضًا: ]وَالْخَيْلَ
وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ
تَعْلَمُونَ}النحل8، وقوله أيضًا: ]وَاقْصِدْ
فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ
الْحَمِيرِ}لقمان19، على الرَّغم من أنَّ «للحمار» أكثر من أربعين اسمًا عند «العَرَب».
ونظيره ذكره
لـ«الكلب» باسمه في قصَّة «أهل الكهف» فقال تعالى: ]وَتَحْسَبُهُمْ
أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ
وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ
لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً} الكهف18، وفي موضع
آخر قال: ]وَلَوْ
شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ
هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ
تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا
فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}الأعراف176، على الرَّغم من أنَّ
لـ«لكلب» أكثر من سبعين اسمًا عند العرب أيضًا، ونذكر مُلحة عن «أبي العلاء
المعريَّ» حيث دخل يومًا على «الشَّريف المرتضى» وهو بـ«بغداد»، فعثر برجل، فقال
الرَّجل: من هذا الكلب؟ فقال «أبو العلاء»: «الكلبُ» منَّا من لا يعرف لـ«لكلب»
سبعين اسمًا.
د. محمد عناد سليمان
28 / 2 / 2015م
28 / 2 / 2015م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق