- فكم ودعنا من أهل وأصحاب واريناهم الثرى في
شتى بقاع المعمورة؟
- وكم من عزيز في قومه رحل إلى جوار ربه، ولم
يشيعه إلا نفر قليل من بلدان متفرقة؟!!
- وكم من كريم كُسرت نفسه لأنه غريب، ويجب
عليه الرضوخ والتنازل؟!!
- وكم من غنيّ في وطنه ألجأته ظروف الغربة لاستدانة
دراهم معدودة ممن يعرف وممن لا يعرف ليشتري أرغفة من الخبز لعياله؟
وإليكم
بعضاً مما يقاسيه المغترب في حياته اليومية، ولن أنسب هذه الوقائع إلى صاحبها،
وسأتمثلها في نفسي:
مرت
السنون الأخيرة قاسية على الكثير من الأحباب، فهناك ندرة في فرص العمل وشِحّة في
الموارد المالية من جهة، وارتفاعٌ في الأسعار محلياً وعالمياً من جهة ثانية، وكثرة
في المطالب والاحتياجات من جهة ثالثة، فكنت ‑ولله الحمد‑ ممن شملهم هذا الحال.
وأذكر ‑في أحد الأشهر القاسية من العام
الجاري‑ أنه انتهى راتبي في الثلث الأول من هذا الشهر، وذلك لبعض المصارف الطارئة
الخارجة عن الخطّة المالية، فاستدنت من أكثر من جهة، أبغي الوصول إلى بداية الراتب
التالي ولكن دون جدوى، ورغم تشبثي بالمال بمخالبي ونواجذي، انتهت ذخيرتي عن آخرها
في بداية الثلث الأخير من الشهر، فحِرت في أمري، ونظرت حولي، وظننت أن الناس
جميعاً أسوء حالاً مني، فاستحييت أن أطلب قرضاً من أحد.
وأقبل اليوم التالي بمقتضياته، فكان أولها
الخبز، حين طلبت الزوجة –حماها الله من كل سوء‑ خبزاً وعلى وجه السرعة لنتناول
غداءنا الذي أوشك على النضج، فصَمَتُّ قليلا، وفي هذه الأثناء لاح في ذهني حلّ
مؤقت للمشكلة، حيث طلبت من ابني الذهاب إلى الفرن، وأكدت عليه بعد أن يستحوز على
الخبز، أن يتلطف في قوله، ويخبر صاحب الفرن بأن الوالد سيدفع له فيما بعد، وطلبت
منه أن يضاعف الكمية المعتادة من ثلاثة أكياس إلى عشرة أكياس، حتى لا يتكرر الحرج لأكثر
من مرة، ريثما أجد من أقترض منه، وكان الأمر يعتريه شيء من الصعوبة، من الناحية
الأدبية أولاً، ولأنني أعلم بأن الفرّان لا يُقرض أحداً سوى أصحاب البقالات
والمطاعم ثانياً، وكانت النتيجة طيبة، وتمت العملية بنجاح حسب الخطة المرسومة،
والحمد لله.
وبقَدَرِ
الله وحكمته انتهى دوائي ‑الذي أتناوله بانتظام منذ سنوات‑ قبل يومين من حادثة
شراء الخبز آنفة الذكر، فأجلت شراءه خوفاً على النقود من الانتهاء، ولكنني شعرت
بتعب وصداع ألجآني للبحث عن طريقة أشتري فيها العلاج، وكان ذلك في نفس اليوم الذي
اشتريت فيه الخبز، فتوجهت من فوري إلى الصيدلية برباطة جأش مفتعلة، وثقة غير تامّة،
وطلبت الدواء بكمية مضاعفة – علبتين من كل نوع‑ حتى لا أنقطع من الدواء قبل تأمين
ثمنه، وبعد أن وضع الصيدليّ الدواء في الكيس، وسلمني الدواء، شكرته بلطف بعد أن رُسِمت
على محياي ابتسامة مشوبة بالقلق، وضربت يدِيَ اليمنى على صدريَ الأيسر، فكان الجيب
الأعلى خاوياً من قروشه، وكذلك فعلت بالجيبين السفليين فكانت النتيجة ذاتها، فقلت
له بِرِقّة ودَمَاثة: معذرة سأرسل لك النقود مع ابني! .. فكان الرجل لطيفاً ولم
يتكلم شيئاً، أو ربما لم أدع له مجالاً للردّ، لأنني غادرت الصيدلية وبيدي كيس
الدواء قبل أن ينبس الرجل ببنت شفة.
فكم خجلت من نفسي، وكم آلمني ما فعلت‑ فلم
أعتد مثل ذلك من قبل‑ مع أنني لم أكذب، ولم أقل بأنني نسيت المال، ولكن تصرفي يوهم
بذلك.
وقفلت
راجعاً وأنا أقلب صفحات الذاكرة، فطوّفت في كل ركن في مدينتي، وسلمت على أقربائي وجيراني،
وعلى بقّال الحيّ والجزّار والنّجار والخيّاط كل باسمه، وصافحت كل من لقيت بحرارة،
خوفاً من أن أفقده فلا أراه ثانية، ولكنني صحوت فجأة على صوت دراجة نارية تمر
بجواري، وكفكفت بعض الدمعات الباردة، التي انسابت دونما استئذان، وحمدت الله على
ما أنا فيه من نعم كثيرة لا أملك أن أحصيها.
وبعد أيام قليلة جاءني بعض المال وسددت ما
عليّ للخباز والصيدلي والبقال و .. و ... الخ، فشكرت الرّزّاق الذي لم تغادرني
رعايته على الدوام.
هذه
لقطة بسيطة مما يقاسيه المغترب في دروب الاغتراب، التي قد تزينها بعض الورود
أحياناً، ولكن تنتابها في الحقيقة الكثير من الأشواك الحادة القاسية.
وعزاؤنا
قوله تعالى :(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ
وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ)
[البقرة 155]، وقول نبيه صلى الله عليه وسلم: "عجبت لأمر المؤمن ؛ إن أمره كله خير إن أصابه
ما يحب ؛ حمد الله وكان له خير، وإن أصابه ما يكره فصبر ؛ كان له خير، وليس كل أحد
أمره كله خير إلا المؤمن"
وكيف لا نقنع ولا نطمئن والحبيب المصطفى يقول لنا: "من أصبح منكم آمنا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه،
فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها".
فأرجوا
من الله تعالى أن يثبتنا ويبدلنا خيراً مما نحن فيه، وأن يفيض علينا من عطائه
وفضله، إنه سميع مجيب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق