هي
دوامة يعيشها الشعب المطحون، من عشرات السنين، من أيام الوالد، الذي لا أُحب أن
أذكر عهده، لما يحمل من ذكريات أليمة، فهل أذكر مجزرة تدمر التي قضى فيها ثُلة من
العلماء والأشياخ والمثقفين من خيرة أبناء سورية الحبيبة؟ أم أذكر مجزرة حماة التي
جاوزت بأحداثها كل معقول، فأذهلت العقول؟ أم أذكر التعذيب إلى الموت، مع التفنن
بألوانه، التي يعجز إبليس عن ابتكار مثلها؟ أم أذكر قتله لإخواننا من لبنان
وفلسطين؟ أم أذكر بقر بطون الحوامل، وانتهاك أعراض المحصنات؟ أم أذكر آلاف
المعتقلين، وأكثر من سبعة عشر ألفاً من المفقودين لا يُعلم مصيرهم؟ أم أذكر عشرات
الآلاف من المهجرين، والمحرومين من وطنهم دونما ذنب اقترفوه؟ فلا أدري من أين
أبدأ؟ وإلى أين أنتهي؟ مع يقيني بطول سلسلة الأفعال الشيطانية، التي لا يتسع
المقام لسردها.
إنها مأساة قديمة، ولكن فصولها حيّة متجددة، حفرت في صدور من عايشها أخاديد
يصعب محوها واندمالها، لا ينكرها إلا أصحاب النفوس السقيمة، والأحاسيس المتبلدة.
واستبشر
السوريون خيراً بقدوم الولد الطبيب المثقف، واعتقدوا بأنه سيكون المخلّص المنتظر!
وخصوصاً أنه اقتحم الساحة وهو يحمل راية الإصلاح، وكانت الصدمة عظيمة، عندما اكتشف
الجميع أن الغمّة لم تنقشع، وأنهم ماكثون في العذاب الأليم، وأن بشار الولد لم يكن
له من اسمه نصيب من البُشرى، بل كان له حظاً وافراً من اسم أبيه، فأثبت أنه حافظ
لعهد أبيه، واستمر على هديه وتلمس خطاه دونما تبديل.
ولم
يرَ الشعب المقهور من إصلاحات بشار إلا أسلوباً جديداً من الخطابات، حيث ظهر
مُنظّراً على الرؤساء في مؤتمراتهم، وعلى شعبه عند مخاطبتهم، وكان تنظيراً لا يحمل
في طياته إلا هرطقة وقرمطة وسفسطة، وكثيراً ما كان يُفسِر الماء بعد الجهد بالماء،
ودائماً ما يشرح ويقول: إذا أردنا أن نعرف (كذا) فلا بد أن نفهم (كذا) أولاً، وهذا
يذكرني بقول (حسني البورظان): إذا أردنا أن نعرف ما في إيطاليا يجب أن نعرف ما في
البرازيل.
وكلما
طالبه شعبه بالإصلاحات، أمعن في مصادرة الحقوق، وداور ثم ناور بأساليب الأبالسة،
ليلتف على هذه المطالب باستصدار بعض القوانين والقرارات الشكلية التي لا تقدم بل
تؤخر.
ولم يكتف بشار بتكميم الأفواه، ومصادرة
الحريات وكتم الأنفاس، بل سلط أقرباءه وعائلته ليعيثوا في أرض الشام المباركة
فساداً، حيث سيطر أقرباؤه وأخوه على القوى الحامية لهذا الكيان، والقامعة لإرادة
الشعب المسكين، والمكممة للأفواه، والمصادرة للحريات، حتى أصبح شعار الكثير:
" لا تنطقوا فإن الجدار له أذن"، وبات البعض يخشى من ظِلّه أن يكون متعاملاً
مع أحد الفروع الأمنية، فَيَشِي به بما فعل وبما لم يفعل وبما قد يفعل، وأمسى
البعض الآخر حريصاً على عدم النوم، أو الإغفاء أمام أحد، خوفاً على نفسه من لسانه،
ربما يبوح بكلماتٍ مما يجول في عقله الباطن من كرهٍ لهذا النظام.
وبعد
أن ضمن هؤلاء المتسلطون ‑ على رقاب السوريين‑ استمرارهم في الحكم وإخلاص القوى
الأمنية في حمايتهم، كان لزاماً عليهم تأمين الموارد الاقتصادية التي تدعم وجودهم،
وتقوي شوكتهم، وكان من أبرز الوجوه التي تصدت للعمل في هذا المجال هو ابن خال
الرئيس " رامي مخلوف"، حيث أُطلِقت يداه ليبيع ويشتري ويتاجر بأموال
المغلوبين على أمرهم من أبناء هذا الوطن السليب، وبالطريقة التي يراها دون ضابط أو
رابط أو محاسب، بل بدعم أمني من الشبيحة والمفسدين، حتى أصبح يسيطر على 60% من
اقتصاد البلاد كما ذَكَرت بعض الصحف، ومنها القبس الكويتية.
ولا تخلو قصة المخلوف من طرافة، مع ما فيها
من الحزن والأسى " وشر البلية ما يضحك"، فقد تاب رامي وأناب، وتفرغ
للخير ابتغاء الأجر والثواب، وسيكون القادم من حياته بين التبتل وإرضاء رب
الأرباب، وسيبذل أموال الشعب لإرضاء الله المعطي الوهاب، وسيحلّ مشاكل أبناء الوطن
من الشيوخ والشباب، وسيطعم شعبنا مما لذّ وطاب، فأي خير نبتغيه بعد ذلك أيها
الأصحاب والأحباب؟؟!
ويحضرني
في هذا المقام وصف شوقي لحالتنا وكأنه يستشرف المستقبل عندما قال:
بَرَزَ
الثَعلَبُ يَوماً
في شِعارِ الواعِظينا
فَمَشى في الأَرضِ يَهذي
وَيَسُبُّ الماكِرينا
وَيَقولُ الحَمدُ لِلـ
ـهِ إِلَهِ العالَمينا
يا عِبادَ اللَهِ توبوا
فَهوَ كَهفُ التائِبينا
وَاِزهَدوا في الطَيرِ إِنَّ الـ
عَيشَ عَيشُ الزاهِدينا
وَاطلُبوا الديكَ يُؤَذِّن
لِصَلاةِ الصُبحِ فينا
فَأَتى الديكَ رَسولٌ
مِن إِمامِ الناسِكينا
عَرَضَ الأَمرَ عَلَيهِ
وَهوَ يَرجو أَن يَلينا
فَأَجابَ الديكُ عُذراً
يا أَضَلَّ المُهتَدينا
بَلِّغِ الثَعلَبَ عَنّي
عَن جدودي الصالِحينا
عَن ذَوي التيجانِ مِمَّن
دَخَلَ البَطنَ اللَعينا
أَنَّهُم قالوا وَخَيرُ الـ
قَولِ قَولُ العارِفينا
مُخطِئٌ مَن ظَنَّ يَوماً
أَنَّ لِلثَعلَبِ دينا
في شِعارِ الواعِظينا
فَمَشى في الأَرضِ يَهذي
وَيَسُبُّ الماكِرينا
وَيَقولُ الحَمدُ لِلـ
ـهِ إِلَهِ العالَمينا
يا عِبادَ اللَهِ توبوا
فَهوَ كَهفُ التائِبينا
وَاِزهَدوا في الطَيرِ إِنَّ الـ
عَيشَ عَيشُ الزاهِدينا
وَاطلُبوا الديكَ يُؤَذِّن
لِصَلاةِ الصُبحِ فينا
فَأَتى الديكَ رَسولٌ
مِن إِمامِ الناسِكينا
عَرَضَ الأَمرَ عَلَيهِ
وَهوَ يَرجو أَن يَلينا
فَأَجابَ الديكُ عُذراً
يا أَضَلَّ المُهتَدينا
بَلِّغِ الثَعلَبَ عَنّي
عَن جدودي الصالِحينا
عَن ذَوي التيجانِ مِمَّن
دَخَلَ البَطنَ اللَعينا
أَنَّهُم قالوا وَخَيرُ الـ
قَولِ قَولُ العارِفينا
مُخطِئٌ مَن ظَنَّ يَوماً
أَنَّ لِلثَعلَبِ دينا
وآخر المطاف أقول: أيها المخلوف أَعِدِ الريشَ لِشعبيَ
المنتوف.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق