قال الولد
لأبيه: مَن أهل الصفّة يا أبت؟ إنني أقرأ عنهم كلمات لا توضح صفاتهم.
قال الأب: هم
المسلمون الذين لا يأوون على مال ولا أهل، ولا يملكون من حطام الدنيا شيئاً،
ويُقبلون على الآخرة.
قال الولد:
ولم دُعوا أهل الصفّة يا والدي؟
قال الأب:
لأنهم كانوا يأوون إلى بناء في مؤخر المسجد النبوي يرتفع عن الأرض قليلاً.
قال الولد: كم
عددهم يا والدي؟
قال الأب:
يذكر بعض المؤرخين أنهم في حدود أربع المئة، وقد استشهد منهم في موقعة بئر معونة
سبعون رجلاً، رضي الله عنهم وأرضاهم.
قال الولد:
فكيف يعيشون وماذا يلبسون؟
قال الأب: أما
لباسهم فلم يكن أحد يلبس رداءً مخيطاً يستر بدنه كله لفقره الشديد، ولكن ترى على
أحدهم إزاراً يحوط جسمه أو كساءً ربطه بعنقه، لمّا يبلغ نصف الساقين أو الكعبين،
ولعل أحدهم إذا ركع جمع كساءه أو إزاره بيده كراهية أن تبدو عورته.
أما طعامهم
فمما يجود به المسلمون من زكاة وصدقة أو هدية، والظاهر من أحوالهم غلبة الفقر
عليهم، وإيثار القلة، واختيارهم لها، فلم يجتمع لأحدهم ثوبان، ولا حضرهم من الطعام
لونان.
قال الولد:
فلم اختاروا هذه الحياة الغليظة ليس فيها من متاع الحياة الدنيا ما يسرّ؟
قال الأب: إن
أحدهم قال للنبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات: والله إني أحبك.
فقال: ((إن
كنت تحبني فأعدّ للفقر قبولاً في نفسك، فإن الفقر أسرع إلى من يحبني من السيل
يتدفق من الجبل مسرعاً نحو الوادي، ولأن الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمس
مئة عام، ولقد قمت على باب الجنة، فكان عامّة من دخلها من المساكين، والأغنياء
ينتظرون الإذن لهم بدخول الجنة)).
قال الولد: من
أشهر أهل الصفة يا والدي؟
قال الأب: من
أكثرهم شهرة، أبو هريرة – عبد الرحمن بن صخر الدوسي – رضي الله عنه أكثرُ أصحاب
الحديث رواية، وأدقهم حفظاً.
قال الابن:
أفلا تحدثني يا والدي عن بعض معاناته حين كان بين أهل الصفّة؟
قال الأب:
حبّاً وكرامةَ يا ولدي ويا فلذة كبدي، عسى الله أن يجعلك من عباده الصالحين وحملة
دينه الصادقين.
فقد أقسم أبو
هريرة رضي الله عنه أنه كان يعيش اليوم أو اليومين أو أكثر من ذلك لا يذوق طعاماً،
وكثيراً ما سقط بين منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وحجرة
عائشة رضي الله عنها مغشياً عليه، يهذي من الجوع والناس يحسبون هذيانه نوعاً من
الجنون، فقد كان يلصق بطنه بالأرض أو يشد الحجر على بطنه ليُسكن ألمَ الجوع،
ويُخمدَ نارَه.
ولقد جلس
يوماً حين اشتد به الجوع في طريق الصحابة يسألهم الآية، وهو يعرفها ويعرف معناها
لعلهم يدعونه إلى بيوتهم فينالَ شيئاً من طعامهم، فمر به النبي صلى الله عليه وسلم ونظر إليه، وعرف ما في وجهه وما في نفسه فكفاه
مؤونة السؤال حين قال: يا أبا هرّ، فأجابه: لبيك يا رسول الله.
قال له: الحق
بي، فتبعه أبو هريرة إلى أحد أبياته، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم بيته،
ثم أذن لأبي هريرة فدخل وجلس، ورأى النبي صلى الله عليه وسلم لبناً
في قدح فقال: ((من أين هذا اللبن؟)).
قالوا: أهداه
لك فلان.
قال: ((إن كان
هدية فقد جاز لي أن أشرب منه))، ثم أردف قائلا: ((يا أبا هر)).
قلت: لبيك يا
رسول الله.
قال: ((اذهب
إلى أهل الصفّة فادعهم لي)).
قال أبو هريرة
في نفسه: وماذا يكفي هذا القدحُ أهلَ الصفّة، وأنا أولى أن أصيب منه شَربةً أتقوى
بها، إنه لا يكفي سوى اثنين، رسولِ الله وأنا، ولكن لا بد من طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطاعته من
طاعة الله، فأسرع إليهم، فدعاهم إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبلوا واستأذنوا فأذن لهم، وأخذوا مجالسهم
من البيت.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا هرٍ)).
قلت: لبيك يا
رسول الله.
قال: ((خذ هذا
القدح فأعطهم يشربون)).
فجعل أبو
هريرة يعطيه الرجل فيشرب حتى يرتوي ثم يعيده إلى أبي هريرة، فيدفعه إلى رجل آخر
فيشرب حتى يروى ثم يعيده إلى أبي هريرة .. وهكذا حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، النبي
العظيم، الرحيم بأمته الرؤوف بها، لم يتصدر للشرب أولاً، إنما اطمأن إلى أن أصحابه
شربوا جميعاً وارتووا، فأراد أن يداعب أبا هريرة، فأمسك بالقدح كأنه يريد الشرب،
وأبو هريرة ينظر إليه عطشان جائعاً فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي
هريرة مبتسماً ثم قال: ((يا أبا هرّ)).
قلت: لبيك يا
رسول الله.
قال: ((بقيت
أنا وأنت)).
قلت: صدقت يا
رسول الله.
قال: ((اقعد
فاشرب)).
قال أبو هريرة
في نفسه: لأشربن فما عدت أملك نفسي، وشرب أبو هريرة حتى روي وأعاد القدح لرسول
الله صلى الله عليه وسلم.
فقال له
الرسول: ((اشرب))، فعاد يشرب، وما زال يأمره بالشرب حتى قال له: لا والذي بعثك
بالحق لا أجد مسلكاً، لقد امتلأتُ وفاضت نفسي وتضلَّعت حتى كدت أنفجر شبعاً ورياً.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فأرني القدح))، وأعطيته إياه فحمد الله تعالى على نعمائه وسمى،
وشرب الفضلة.
ما أرحم رسول
الله صلى الله عليه وسلم بأمته وما أكثر بركتَه! إن
قدحاً واحداً يروي العشرات بين يديه الشريفتين.
قال أبو
هريرة: لقد جرت معي قصة أخرى في تكثير الطعام مع أهل صفّة، فقد أتت عليّ ثلاثة
أيام لم أطعَم فيها، فجئت أريد الصفّة، فجعلت أسقط، فكان الصبيان يقولون: جن أبو
هريرة، حتى انتهيت إلى الصفّة فإذا بقصعة من ثريد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل منها أهل الصفّة، فجعلت أتطاول كي يراني
رسول الله فيدعوني، حتى قاموا وليس في القصعة إلا شيء في نواحيها، فجمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصار لقمة، فوضعها على أصابعه الشريفة، فقال لي: ((كل باسم الله)).
قال أبو
هريرة: فوالذي نفسي بيده ما زلت آكل منها حتى شبعت.
رياض
الصالحين: باب فضل الزهد في الدنيا
باب فضل الجوع
وخشونة العيش
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق