يقع
الكتاب قي 130 صفحة من القطع المتوسط ، والمؤلف يحمل شهادة دكتوراه في العلوم السياسية
من جامعة القاهرة ، ويعمل حالياً أستاذاً للعلوم السياسية في جامعة اليرموك
بالأردن ، يدور الكتاب حول عدة محاور أهمها مفهوم الحضارة ، والتكامل الحضاري ،
ومبررات هذا التكامل ، وإشكالياته ، وفرص نجاحه .
يذكرنا
الكاتب في البداية ببعض البحوث التي ظهرت في العقد الأخير من القرن العشرين وهي
تعلن عن "نهاية التاريخ" وذلك في إشارة ملفتة إلى كتاب للأمريكي
فرانسيس فوكوياما يحمل هذا العنوان ، وقد أقام فوكوياما نظريته على ما حصل
خلال تلك الفترة من انتصار للرأسمالية وسقوط الشيوعية وانتهى من ذلك إلى القول بنهاية
عصور الحروب وبداية عصور السلام في ربوع العالم ، لكن لم يلبث أن ظهر باحثون آخرون
يبشرون بمستقبل مناقض تماماً مليء بالمخاطر والحروب والشرور ، منهم الأمريكي هنتنغتون
في كتابه المثير للجدال "صراع الحضارات" ، وظهرت في الوقت نفسه
دعوات متفائلة تدعو إلى حوار الحضارات ، مما أثار الكثير من التساؤلات حول مستقبل
الحضارة البشرية عامة .
انتقل
المؤلف بعد هذه المقدمة لمناقشة مفهوم الحضارة ، عارضاً ما اعترى هذا المفهوم من جدل
طويل لم ينته حتى اليوم ، فالمفكرون الغربيون لا يرون في الحضارة سوى مظهرها
التقني ، باعتبارها جهداً بشرياً تراكمياً ، على الرغم من أنها ارتكزت في بداياتها
على قيم الديانة المسيحية إلا أنها لم تلبث أن ابتعدت عنها حتى باتت تعاني من
الفراغ الروحي ، أما الرؤية الإسلامية فتعطي الدين دوراً أساسياً في البناء
الحضاري ، وقد قدمت الحضارة الإسلامية نموذجاً فريداً في تاريخ الحضارات الإنسانية
، مما يظهر الفارق الكبير ما بين نظرة الغرب للحضارة وبين نظرة الإسلام .
أما
مرتكزات البناء الحضاري فيرى المؤلف أنها تقوم على ثلاثة عناصر أساسية ، هي القدرات
البشرية التي تستطيع تطوير الحياة في مختلف المجالات ، والعقيدة الدينية
التي لا غنى عنها لأية حضارة لأن الناس يحتاجون دوماً إلى بنية عقيدية قوية تحركهم
وتدفعهم نحو البناء والعطاء والتقدم ، وثالث تلك العناصر التطور المديني لأن
نشوء المدن وتوسعها وتطورها مؤشر ظاهر للعيان على المرحلة التي بلغتها أية أمة في
مضمار الحضارة .
ثم
تحدث المؤلف عن حركة الحضارة فأشار إلى نخبة من المفكرين الذين تناولوا هذا
الموضوع ، منهم أرنولد توينبي ، و ابن خلدون ، و مالك بن نبي
الذي رأى أن للحضارة دورة كاملة تتكون أساساً من ثلاث مراحل : في الأولى تكون
النشأة بميلاد فكرة سامية ، وفي الثانية يكون إعمال العقل فتنمو العلوم ويزدهر
الإنتاج المادي ، وفي الأخيرة تبرز نزعة الشهوات الجسدية والغرائز فتدخل الأمة مرحلة
الاستهلاك لمنجزاتها الحضارية ويكون الهرم والعجز عن الإصلاح والنهوض . ويشير
المؤلف إلى أن بن نبي لا يتفق مع ابن خلدون في حتمية موت الحضارة ، فهو
يرى أن الحضارة لا تموت وإنما تغط في نوم عميق ، ويمكن أن تستيقظ من جديد وتعاود
السير في طريق النهوض ، لكن هذا مرهون بشروط نفسية وزمنية معينة في مقدمتها الالتزام
بالفكرة الدينية في أسسها العقيدية والإيمانية ، لما توفره للأمة من قدرة على
تجديد حركتها واستعادة دورها النهضوي .
بعد ذلك
انتقل المؤلف للحديث عن مفهوم التكامل الحضاري الذي يشير إلى مستوى معين من
التفاعل بين جماعات متعددة ذات خلفيات حضارية متباينة ، ويفترض أن يبتعد بها عن
الصراعات والحروب ليرسخ بدلاً من ذلك حالة السلام التي تمكن الجميع من مواجهة
المشكلات بكفاءة واقتدار ، فالتكامل المنشود بهذا التحديد هو عملية تطورية تراكمية
تنهي مرحلة معينة من حياة الجماعة البشرية لتبدأ مرحلة جديدة مختلفة في ظل حالة من
الاستقرار والسلام .
وقد
برز الاهتمام بالتكامل أول الأمر في مجال العلاقات الدولية ، فعكف لفيف من
المفكرين على دراسته ، وحاول الغربيون استغلاله للقضاء على خصوصيات الذاتية للآخرين
، وتشكيل ثقافة تطغى على غيرها من الثقافات ، وقد شهدت العقود القليلة الماضية
بالفعل حالة من التمدد الثقافي الغربي الذي استهدف التأثير ببقية الثقافات
لتبدو الثقافة الغربية وكأنها الوحيدة الحية الفاعلة ، وبالمقابل برز مفكرون آخرون
طرحوا مصطلح التكامل الحضاري بشكل يشير إلى مستوى رفيع من التفاعل الإيجابي
بين أكثر من حضارة ، فتقوم كل منها بدور ما في تقدم البشرية ، دون إقصاء للآخرين ،
وبهذا يكون لكل أمة إضافتها الخاصة ، ويكون لها أداؤها القيمي الذي يعكس منهجها
وسلوكها .
أما
طرق التكامل الحضاري فيرى المؤلف أنها ينبغي أن تعتمد وسائل عقلانية بثلاثة طرق
أساسية متداخلة هي : إقامة شبكة من الاتصالات لتعزيز الروابط الودية والروح
الجماعية والاتجاه نحو التكتل ، وتحقيق التكامل الوظيفي بسن قوانين تفيد في
التكامل على المستوى الدولي ، والتعاون السلمي الذي يصرف فكرة الحروب والنزاعات
عن بال المشاركين ، ومن أجل هذا وضع المفكر البريطاني ديفيد ميتراني < David Mitrany > مصطلح التكامل الوظيفي انطلاقاً
من أن المهم ليس معرفة كيفية حفظ السلام بين الأمم وإنما المهم كيف يمكن خلق ترابط
فعال فيما بينها ، لأن التقدم الاقتصادي والاجتماعي هو الشرط الحقيقي والأول
للسلام ، ولهذا اقترح تكوين مؤسسات دولية للقيام بوظائف متخصصة تخدم هذا الهدف ، على
أن يكون لمنظمات المجتمع المدني دور فعال في هذا الاتجاه .
وهناك
العديد من المبررات التي تجعل الحاجة ملحة للتكامل الحضاري بين الأمم والشعوب ،
وهذه المبررات تقوم على حقيقة تحول كوكبنا العزيز .. الأرض .. إلى ما يشبه القرية
الصغيرة التي يتأثر أقصاها بما يحدث في أدناها بلمح البصر ، فهذه الحالة تفرض على أهل
الكوكب أن يعيدوا النظر في علاقات بعضهم مع بعض ، والتفكير جدياً بنوع من التكامل
الذي بات لا مندوحة عنه أمام ما يواجهه الكوكب من تحديات عظيمة تفرض على الجميع
التكاتف والتضامن للتصدي لها والتغلب عليها حفظاً لمستقبل البشرية ، علماً بأن الانعزال
والانغلاق في هذا الزمن لم يعد ممكناً مع التقدم الهائل الذي حصل في مجال
الاتصالات والمواصلات ، وفي ظل القضايا العالمية الشائكة والتحديات الهائلة التي
لم يعد بمقدور أية أمة أن تواجهها بمفردها ، ومهما كان بين الأمم من اختلاف وتباين
فإنها لا يمكن أن يستغني بعضها عن بعض ، فلابد لها من التعاون والتكامل بشكل أو
بآخر .
لكن هناك
تحد كبير يواجه نجاح عملية التكامل الحضاري ، وهذا التحدي نشأ في ظل العولمة وما
رافقها من غزو ثقافي دفع بعض المجتمعات للعودة إلى تراثها وماضيها من أجل الحفاظ
على ثقافتها ، ما جعلها تتحول إلى كيانات معزولة ، وجعل البعد القومي يبرز على
السطح ويهدد مسيرة التكامل الحضاري بالفشل ، وقد يكون لهؤلاء بعض الحق في هذه
النظرة السلبية إلى العولمة لأنها تدعو إلى ثقافة كونية تضم منظومة من القيم والقواعد
والمعايير الأخلاقية العلمانية الغربية لتحل محل مفاهيم وثقافات الحضارات الأخرى ،
فالعولمة بهذا الشكل تعد عملية تغريب <Westernization>
تستهدف تعميم النمط الغربي إلى كافة الشعوب باعتباره النمط الأمثل .
وهنا
لابد أن نلاحظ أن الحضارة الغربية الراهنة تعيش حالة أزمة حقيقية ، ففي الوقت الذي
وصلت فيه هذه الحضارة الذروة في الرفاهية المادية ، نجد أنها انحطت إلى الدرك
الأسفل في القيم الأخلاقية والروحية ، ودخلت في الربع الأخير من القرن العشرين
مرحلة حرجة ، من مظاهرها التمحور حول القيم التقنية ، وفقدان القاسم المشترك ،
وفقدان التوازن الضروري بين الأفكار والأشياء ، وانطلاق الغرائز الدنيا من عقالها
لتعود بالإنسان إلى الحياة البدائية وهي المرحلة الأخيرة من مراحل دورة الحضارة ،
ما يعني بداية أفول الحضارة الغربية وتحول مركز الحضارة إلى مكان آخر يكون أكثر
احتفالاً بالقيم الإنسانية الرفيعة .
وهذا
لا يعني أن الحضارات الأخرى الراهنة أفضل حالاً ، فإذا تركنا الحضارتين اليابانية
والصينية اللتين استطاعتا تحقيق درجة ما من النهوض والتطور ، فإننا نجد الحضارات
الراهنة الأخرى في أمريكا اللاتينية وأفريقيا تعاني من أزمات طاحنة ، وكذلك
الحضارة الإسلامية بالرغم من تباشير الصحوة والنهوض التي بدت عليها خلال العقود
القليلة الماضية ، حيث يتنازع المتجمعات الإسلامية اتجاهان ، أحدهما تجسده قوى
اجتماعة تؤمن بالاعتماد على المرجعية الإسلامية ، نجده بشكل خاص في المجتمعات
العربية والقوقازية والتركية ، وهو يرفض القيم العلمانية والتوجهات الغربية عموماً
، ويتمسك بالتراث والتاريخ والحضارة ويبدي مقاومة وتمنعاً إزاء قيم وأخلاقيات
الحضارة الغربية ، أما الاتجاه الآخر فتجسده قوى اجتماعية ذات توجهات غربية ،
منبهرة بالحداثة الغربية ، تتلقف كل ما هو غربي باعتباره المدخل الحقيقي للتطور
والتقدم . ولاجدال بأن هذا الانقسام بين الفريقين يشكل تحدياً كبيراً أمام نهضة
الأمة الإسلامية ، وهو يحتم على أتباع الاتجاهين البحث عن صيغة مناسبة لوضع مشروع
شامل ، لكن يبدو أن هذا التوافق غير قابل للتحقيق في المدى المنظور لاسيما في غياب
دولة مركزية قادرة على القيادة وتقديم النموذج المطلوب .
انتقل
المؤلف بعد ذلك للحديث عن بناء أنموذج حضاري عالمي أصبح في أيامنا الحاضرة يشكل
ضرورة إنسانية ، ليس فقط بحكم الحاجة إلى التعايش السلمي بين الأمم والشعوب ،
وإنما أيضاً بفعل التواصل الهائل الذي وفرته الوسائل الحديثة ، غير أن الغاية منه
هي بناء أنموذج حضاري له من الخصائص ما يجعله يحمل بجدارة صفة العالمية ، بشرط أن
يقوم على الندية والتفاعل الإيجابي والطابع الإنساني الشامل ، ومن أجل تحقيق هذا
الأنموذج لابد أن تقوم النخب السياسية والفكرية في العالم بمسؤولياتها ودورها في
كسر الحواجز التي تحول دون قيام توافق دولي إنساني عادل ، ومنع حدوث تصدعات سياسية
، أو انهيارات ثقافية ، وعندئذ يمكن أن نصل إلى سلام حقيقي يتعايش في ظله البشر
تحت مظلة قانون دولي عادل ينصف الجميع .
بعد
ذلك عدد المؤلف بعض الإشكاليات التي تقف في طريق التكامل الحضاري ، فرأى أن بعضها
داخلي يتعلق بتحول وظيفة الدولة على مستوى الفعل الحضاري ، وبعضها خارجي يرجع إلى
طبيعة العلاقات بين الحضارات المختلفة ، ونظرة بعضها إلى بعض ، وثقة كل منها
بالأخرى ، ويقف المؤلف بصورة خاصة عند
فقدان الثقة بين الغرب والشرق ، فيلاحظ أن هذه الحالة ترجع إلى عدة عوامل ، منها الجهل
بالآخر وغياب النظرة الموضوعية لدى الطرفين ، فإن نظرة الغرب والشرق كل
منهما إلى الآخر مشوبة بانطباعات ترتبط بترسبات سابقة وتوجهات خاصة ، ولم تؤد إلى
بناء علاقات قائمة على المودة والاحترام المتبادل ، بل عززت مسار التفاعلات السلبية
التي قادت إلى صراعات عديدة بين الطرفين ، ويرجع ذلك إلى المصادر الخاصة بتشكيل ثقافة
كل منهما ، ولاسيما الدين والإيديولوجيا ووسائل الإعلام ، وقد كان للإعلام الغربي
دور كبير في تقديم صورة مشوهة عن الإسلام صورته بأنه خصم دائم للغرب وحضارته ، أما
الإسلاميون بالمقابل فينظرون إلى الحضارة الغربية على أنها حضارة إباحية فاسقة
فاسدة ، ولذلك يعملون على البقاء خارج دائرة التأثير الغربي .
أما
فرص التكامل الحضاري فترتبط بتوافر الظروف الملائمة ، وهي تدور حول ثلاثة معطيات
أو حقائق لها أثرها البارز في التواصل الحضاري ، هي : وسائل الاتصال الحديثة
وما يرتبط بها من برامج متطورة تعد بتغير أوضاع الثقافات وأنماط السلوك ، ومن ثم
التقارب وإقامة علاقات تتعزز فيها حالة السلام دون أن تذوب أية ثقافة في غيرها من
الثقافات . وثاني هذه العوامل وجود مؤسسات مجتمع دولية تدفع بالاتجاه نحو
المزيد من التواصل والتفاعل بين الحضارات ، والعامل الثالث هو وجود قيم إنسانية
مشتركة تشكل رافعة لكل تطلع حضاري بين الأمم والشعوب ، منها : العدل ، وتحريم
العقوبات الجماعية ، والبر والإحسان .
أخيراً
، يرى المؤلف أن هناك مؤشرات إيجابية للتكامل بين الحضارات ، يذكر منها التغير في
الصورة النمطية للآخر ، والرغبة الحقيقية بالحوار معه ، وتفعيل الجسور العالمية
بين الحضارات ، أما التحرك نحو التكامل فيحتاج إلى التمهيد بخطوات عديدة ، منها اكتشاف
الآخر بصورة موضوعية بعيدة عن الأحكام المسبقة ، والإقرار بتكافؤ الفرص ، والاحترام
المتبادل ، وتحديد مرجعية للتفاعل الحضاري ، أما العبور إلى التكامل فيرى المؤلف
أنه يمر بثلاث مراحل هي : التعارف ، والتعايش ، والتحالف . ويرى المؤلف أن المستقبل
ــ في ضوء ما تقدم وفي ظل مكتسبات العولمة ــ هو لصالح تكامل الحضارات ، مع
التسليم بأن هذا التكامل لن يحصل بسرعة لأنه عملية تراكمية ربما تحتاج إلى أجيال
عديدة ، لكنه آت لا محالة ، بشرط أن نعطي الاهتمام اللازم بكل ما يوثق أواصر
التعاون والتعارف بيننا ، ويقوي القواسم المشتركة ، في إطار من الديمقراطية والشراكة
الحقيقية التي تجعل الجميع على قدم المساواة .
د.أحمد محمد كنعان
Kanaan.am@hotmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق