بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد :
لقد شهد عصرنا الحاضر ثورات علمية
واسعة أسفرت عن عدد لا يحصى من الكشوف العلمية والإنجازات العظيمة التي جعلت
حياتنا أيسر وأجمل ، بل كان عصرنا نقطة تحول حاسمة في تاريخ العلم ، فقد حقق العلماء
في هذا العصر من الإنجازات والكشوف العلمية ما كان إلى وقت قريب ضرباً من الخيال
أو المستحيل ، فلا غرابة أن تغير الثورات العلمية المتلاحقة التي شهدها عصرنا وجه العالم
حتى لم يعد اليوم كما كان بالأمس :
·
ففي
هذا العصر تمكن الإنسان ــ بمخترعاته الدقيقة الحساسة ــ أن يسمع ما لم يكن يسمع ،
وأن يرى ما لم يكن يرى ، وأن يصل إلى ما لم يكن يحلم أن يصل إليه .
·
وفي
هذا العصر أيضاً استطاع الإنسان بوسائل المواصلات السريعة ، والاتصالات العابرة
للقارات ، أن يجعل من كوكب الأرض "قرية صغيرة" يتأثر أقصاها بما يحصل في
أدناها بلمح البصر .
·
وفي
هذا العصر كذلك ، ولأول مرة في التاريخ ، استطاع الإنسان أن يفجر الذَّرة ويستخرج منها
طاقة هائلة تجاوزت كل ما سمعناه أو قرأناه عن طاقة الجنِّ والعفاريت .
·
وفي
هذا العصر أيضاً استطاع الإنسان أن يتحرر من أسْر الجاذبية الأرضية التي قيدته
لدهور طويلة ، فنفذ من أقطار الأرض ، وانطلق في أقطار السماء ، فزار أقرب جيران
إليه (القمر عام 1969) ، ولم يكتفِ بهذا الإنجاز الخارق للعادة ، بل راح يخطط
لزيارة بقية الجيران .. هناك .. في العوالم البعيدة .
·
والعجيب
أن كل هذه الإنجازات المدهشة قد حصلت في فترة زمنية لا تتجاوز قرناً واحداً من
الزمان ، وما هذا إلا بفضل الله عز وجل أولاً ، ثم بفضل العلم الذي كشف للإنسان عن
سنن الله في خلقه ، ومكنه من تسخيرها في تحقيق هذه النقلة العلمية الفريدة في
التاريخ .
وربما كان "علم الفلك"
من أكثر العلوم التي تطورت خلال هذا العصر ، بل إن الكثير من الإنجازات العلمية التي
تمت في هذا العصر ترتبط بشكل أو بآخر بما أحرزه هذا العلم من تطور ، ومع هذا فإن
نفراً منا نحن المسلمين مازال في شك من هذا العلم الذي أثبت جدارته ودقته ومصداقيته
من خلال ما حققته من كشوف وإنجازات ، وهذه بلا ريب مفارقة غريبة من أمة تفخر بأن
دينها هو دين العلم ، بل هو دين جعل العلم ركناً أساسياً في بنائه الشامخ المتين ،
حتى إن لفظ (العلم) ومشتقاته تكرر في القرآن الكريم (765 مرة) ووردت آيات وأحاديث
نبوية عديدات تحض على طلب العلم من خلال السير في الأرض والنظر والتدبر في ملكوت
الله العظيم ، في السموات الأرض .
ويجمع الفقهاء والمفسرون على أن العلم
الذي دعا إليه الإسلام ليس علم الشريعة فحسب ، وإنما هو العلم بمعناه الشامل ، وهذا
ما نستشفه مثلاً من قوله تعالى : ( ولَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ
عِلْمًا ، وَقالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ
عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ) سورة النمل ، الآية 15 ، ثم ذكر مما علمه
إياه ربه : منطق الطير ، وصناعة الحديد ، والغوص في البحار ، وغيرها من العلوم
الكونية .
كما نلمح هذا المعنى العام للعلم في
قول النبي صلي الله عليه وسلم : ( مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ
عِلْمًا ، سَهَّلَ اللهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ .. الحديث ) أخرجه
أحمد 5/196(22059) و"الدرامي" 342 و"ابن ماجة"223 ، فقد
ورد لفظ العلم هنا بصيغة التنكير ليدل على المعنى العام للعلم الذي يشمل مختلف
ضروب العلم ، لا العلم الشرعي وحده .
ومن أبرز الشواهد على مكانة العلم
في الإسلام أن أول كلمة في أول آية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى
: ( اقْرَأ باسْمِ رَبِّكَ الذي خَلَقَ ) سورة العلق ، الآية 1 ، ومعلوم
أن الدعوة إلى تعلم القراءة هي أولى الخطوات لتحصيل العلم ، فلا غرابة إذن أن نجد
النبي صلي الله عليه وسلم يطلب لتحرير "أسرى بدر" أن يعلِّم القادر منهم
القراءة والكتابة لعشرة من أبناء المسلمين ، وكانت هذه منه صلي الله عليه وسلم
البادرة الأولى في تاريخ الحروب ، فقد كانت الحروب قبل ذلك تنتهي باسترقاق الأسرى ،
فجعلها الإسلام تنتهي بالعلم والتعليم .
وقد أدرك السلف الصالح أهمية هذه
الدعوة الكريمة في الكتاب والسنة إلى طلب العلم ، فسلكوا كل سبيل يوصلهم إليه ، حتى
أصبحوا في زمن قياسي سادة العالم في مختلف العلوم ، وأصبحت المدن الإسلامية منارات
ومقصداً لطالبي العلم من أنحاء المعمورة .
ثم دار الزمان دورته ، فانتقل
مركز العلم إلى غير المسلمين ، وليت الأمر توقف عند هذا الحد ، بل وصل إلى تشكيك نفر
من المسلمين ببعض العلوم المعاصرة ، ومنها علم الفلك الذي بلغ في عصرنا شأواً
عظيماً كما قدمنا ، فمازال نفر من الفقهاء يرفضون التسليم بالحسابات الفلكية لتحديد
بداية الشهور القمرية ونهايتها ، ومنها شهر رمضان المرتبط بشعيرة الصوم ، ويتمسكون
بتحري هلال هذا الشهر الكريم بالعين المجردة استناداً إلى النصوص التي وردت فيه ، مما
يثير في كل عام جدلاً واسعاً بين المسلمين حول مطلع رمضان وبداية الصوم ، ثم يتكرر
الجدل نفسه في نهاية رمضان من أجل تحلل المسلمين من الصوم ، وهذا ما يظهر الأمة
الإسلامية بمظهر الخلاف والشقاق ، وأعتقد أن هذا الخلاف يرتبط بصورة أساسية
بالعلاقة ما بين النصوص الشرعية وبين حقائق العلم ، وهي قضية تحتاج منا إلى وقفة
تأمل طويلة ، وسوف نحاول في هذا البحث إلقاء الضوء على الجوانب المختلفة لهذه
المسألة .
مكانة الصيام في
الإسلام :
صيام رمضان ركن من أركان الإسلام
؛ وقد وردت آيات وأحاديث كثيرة حول مكانة الصوم في الإسلام ، وبخاصة منه صوم رمضان
، وبينت ما فيه من فضل كبير وأجر عظيم ، فقد اختص الله عز وجل صيام هذا الشهر
الكريم من بين سائر الأعمال فأضاف صيامه إلى نفسه الشريفة إضافة تشريف ، كما ورد
في الحديث القدسي : ( كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إلا الصِّيام ؛ فإنَّهُ لي
وأنا أجْزي بِهِ ) متفق عليه ، وقد أجمعت الأمة على أن صوم شهر رمضان
فرض لقوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ )
سورة البقرة ، الآية 183 ، وقوله
تعالى : ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ القُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ
وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ
فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ
أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ
وَلِتُكْمِلُوا العِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ
وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون ) سورة البقرة ، الآية 185 ، وحديث ابن عمر
رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : ) بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله
إلاّ اللّه ، وأنّ محمّداً رسول اللّه ،
وإقام الصّلاة ، وإيتاء الزّكاة ، والحجّ ، وصوم رمضان ) متفق عليه .
وعند جمهور الفقهاء - الحنفيّة
والمالكيّة والشّافعيّة - أن من رأى هلال رمضان ، وردّت شهادته ، لزمه الصّوم
وجوباً ، وهو مشهور مذهب أحمد ، لقوله تعالى : ( فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ
الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) , وحديث : ( صوموا لرؤيته ( لأنّه تيقّن أنّه من رمضان فلزمه صومه ( الموسوعة الفقهية ،
مادة صوم ، وزارة الأوقاف ، الكويت ) .
تحري هلال رمضان بالعين
المجردة :
يشرق القمر ويغرب كما تشرق الشمس
وتغرب ، ويعتقد الكثيرون أن القمر يشرق ليلاً ويغرب نهاراً ، وهذا غير صحيح ، بل يختلف
وقت إشراق وغياب الهلال من يوم إلى آخر ، فالقمر يغير أطواره كل 29.5 يوماً
تقريباً ، فيتحول من طور إلى طور ، تبدأ بالمحاق (معتم) ، مروراً بالهلال المتزايد
، ثم التربيع الأول ، والأحدب المتزايد ، ثم البدر ، والأحدب المتناقص ، ثم
التربيع الثاني ، ثم الهلال المتناقص ، ويعود مرة أخرى إلى المحاق ، وخلال هذه
المراحل يشرق القمر ويغرب خلف الأفق .
بالمقابل ، تشرق الشمس من جهة
الشرق صباحاً ، وتغرب في جهة الغرب ، وتستغرق المدة بين كل شروق للشمس والذي يليه
24 ساعة ، أما القمر فهو لا يشرق دائماً ليلاً ، ولا يغرب دائماً نهاراً ، فموعد
شروق القمر يعتمد على طور القمر ، فمثلاً عندما يكون القمر محاقاً فهو يشرق مع
شروق الشمس ويغرب مع غروبها تقريباً ، وفي طور التربيع الأول يشرق في منتصف النهار
ويغيب في منتصف الليل ، وفي طور البدر يشرق مع غروب الشمس ويغرب مع شروقها ، وطور
الهلال المتزايد يعني شروقه بعد الشمس بقليل وغروبه بعد غروب الشمس بقليل .
ومن أجل تحري هلال شهر رمضان بالعين
المجردة يوجه البصر إلى الجهة الغربية من السماء ، في ليلة 29 شعبان ، فإذا رأينا
الهلال يكون شعبان 29 يوماً ، ويصبح اليوم التالي هو أول يوم من شهر رمضان ، وإن
لم يشاهد الهلال يتمم شوال ثلاثين يوماً .
وينبغي توفر شرطين لرؤية الهلال
بالعين المجردة ، وإذا لم يتوافر هذان الشرطان تعذرت الرؤية :
1.
أن
تكون مرحلة المحاق التام ( الاقتران ، أو أقصى سواد للقمر ) قد تمت قبل غروب الشمس
لأن الهلال الجديد سيتكون بعد تمام مرحلة المحاق ، فإذا لم نصل إلى مرحلة المحاق
فلا معنى لتحري الهلال .
2.
أن
يكون غروب القمر بعد غروب الشمس ، وذلك لأن غروب القمر قبل غروب الشمس يعني أنه لن
يوجد هلال ليبحث عنه في الأفق بعد غروب الشمس ، فإذا غاب الهلال قبل الشمس أو معها
فلا تمكن رؤيته ، وقد أكد العلماء هذه الحقيقة في توصيات الاجتماع السابع للجنة
توحيد الأهلة عام 1998 في جدة .
إلا أن توفر هذين الشرطين لا يعني
بالضرورة إمكانية رؤية الهلال بالعين المجردة ، لأن مدار القمر حول الأرض هو مدار
إهليلجي (بيضاوي) ، ولذلك يختلف بُعد القمر عن الأرض من وقت لآخر ، وكلما كان
القمر أبعد عن الأرض كانت رؤية الهلال أصعب ، كما أن غروب القمر فوراً أو بعد مدة وجيزة
من غياب الشمس يدل على أن موقعه قريب من الشمس ، وهذا يعني أنه لم يبتعد عن الشمس
بما فيه الكفاية لتعكس حافته ضوء الشمس على شكل الهلال ، كما أن ضوء الشفق الباهر
تحجب أية إضاءة قد يتسبب بها انعكاس ضوء الشمس على القمر (ضوء الهلال) كما أن
غيابه بعد مدة قصيرة جداً من غياب الشمس يعني أنه قريب جداً من الأفق وقت الرصد ؛
وهذه العوامل كلها تجعل رؤيته متعذرة ضمن هذه الظروف .
ولا جدوى من تحري الهلال بعد غروب
الشمس من المناطق التي يغيب فيها القمر قبل الشمس ، لأن القمر غير موجود في السماء
وقتئذ ، ورؤية الهلال مستحيلة في ذلك اليوم استحالة قاطعة في تلك المناطق ، وهذا
معروف مسبقاً من خلال الحسابات الفلكية القطعية ، ولذلك كان من توصيات "مؤتمر
الإمارات الفلكي الثاني" الذي نظمته جمعية الإمارات للفلك يوم 30 مايو
2010 تحت عنوان “دور الفلك في المجتمع الإسلامي” وتطبيقاته في الشريعة الإسلامية
والتعليم والبيئة ، وحضره فقهاء ومتخذو قرار من عدة دول عربية وإسلامية ما نصه : "إذا
قرر علم الفلك أن الاقتران لا يحدث قبل غروب الشمس أو أن القمر يغرب قبل الشمس في
اليوم 29 من الشهر فلا داعي لتحري الهلال" ، ذلك لأن تحري الهلال ونحن
نعلم مسبقاً أن القمر غير موجود في السماء بناء على معطيات علمية هو تهميش للعقل وللعلم
.
وإن مما يؤسف له أن مثل هذه الأخطاء
في تحري الهلال قد تكررت مرات عديدة في القديم والحديث ، بل كثيراً ما كان هناك
فارق يوم أو يومين وربما ثلاثة أيام ما بين بلد مسلم وآخر ، مع أن هلال الشهر
القمري يولد في لحظة معينة ، ولا تتكرر ولادته في الشهر إلا مرة واحدة ، ويبقى
الفارق ما بين أبعد رصد وآخر لا يزيد عن 12 ساعة ، كما هي الحال في شروق الشمس أو
غروبها ما بين نقطتين تقعان على طرفي الكرة الأرضية ، فلا يمكن أن يكون هناك فارق
بالأيام في ولادة الهلال ما بين بلد وآخر ، وهذا نعرضه في المطلب التالي .
ميلاد الهلال في علم
الفلك :
لقد أصبح علم الفلك في عصرنا
الراهن من أكثر العلوم تقدماً وتطوراً ، نتيجة البحوث والدراسات والرصد الفلكي
الدقيق عبر المراصد العادية والمراصد الراديوية ، وأيضاً نتيجة رحلات الفضاء التي
زودت العلماء بمعلومات دقيقة جداً عن حركات النجوم والأفلاك ، فأصبح علماء الفلك
اليوم قادرين على التنبؤ بالظواهر الكونية قبل حصولها بزمن طويل ، وعلى سبيل
المثال أصبح بإمكان علماء الفلك التنبؤ بزمن الكسوف والخسوف قبل حصوله بزمن طويل ،
فتراهم يحددون زمنه بالدقيقة والثانية ، ويحددون المناطق التي سوف يرى فيها ،
ويحددون بدقة متناهية الزمن الذي سوف يستغرقه ، ولا ريب بأن علماء الفك لم يكونوا
ليحققوا هذه الدرجة من الدقة في التنبؤ بالظواهر الكونية لولا ما حصلوه من فهم
دقيق للقوانين التي قدرها الله عز وجل لحركات الشمس والقمر وبقية الأفلاك ، وهذا
ليس رجماً بالغيب ولا تنجيماً كما كانت الحال في الماضي ، بل هو علم يقوم على أسس
راسخة ، وهو ما مكن العلماء من ارتياد الفضاء ، والهبوط على سطح القمر في عام 1969
، وإنزال المركبات على سطح المريخ الذي يبعد عنا أكثر من ( 400 مليون كيلو متر ) ،
بل تمكن العلماء من خلال هذا العلم أن يصلوا بمركباتهم الفضائية إلى مذنَّب ضئيل قطره
لا يزيد عن قطر ملعب كرة القدم ، ويبعد عن أرضنا ملايين الأميال ، ويسير بسرعة
هائلة عبر الفضاء ، ولا جدال بأن اصطياد مذنب ضئيل في هذه الظروف أشبه باصطياد
عصفور من قبل صياد يبعد عنه ألف كيلو متر أو يزيد ! وأكثر من هذا أن بعض المركبات التي
أرسلها العلماء لاستكشاف الفضاء قد عبرت نطاق المجموعة الشمسية وراحت تتجول في
مجرتنا ( درب اللبانة ) ومع أنها مضى على انطلاقها من الأرض نحو 40 عاماً فإن العلماء
مازالوا يتواصلون معها ، ومازالت ترسل لهم الصور والأخبار من أعماق السماء !
إن هذه الحقائق الدامغة جعلت من
علم الفلك علماً ذا مصداقية عالية جداً لا تقبل الجدل ، وقد أثبت هذا العلم أن
للهلال ميلاداً واحداً كل شهر قمري ، ومن ثم فإن رؤية ميلاد الهلال ( New Moon ) إذا ثبتت في أية بقعة من بقاع الأرض فإن ثبوتها يصبح ملزماً
لجميع أهل الأرض ، وهذا الميلاد غير مرتبط ببقعة
محددة من الأرض ، فإذا ولد الهلال في أية بقعة من الأرض دخل الشهر القمري في الأرض
كلها ، لكن مع ملاحظة الفروق الزمنية ما بين بقعة وأخرى ، وهذه الفروق لا تزيد عن
( 12 ساعة ) بين أقصى الأرض غرباً وأقصاها شرقاً ، أي إن حال القمر في هذا مثل حال
للشمس ، فالشمس تشرق وتغرب كل يوم على جميع الأرض خلال 24 ساعة ، وكذلك القمر ، واليوم
القمري كاليوم الشمسي يمر على جميع الأرض خلال 24 ساعة ، ومن ثم لا يمكن أن يكون
الفارق في بداية الشهر القمري يوم كامل أو يومان أو أكثر كما حصل مرات عديدة في
البلدان الإسلامية بسبب الاعتماد على تحري الهلال بالعين المجردة التي لا تسلم
عادة من الخطأ ، فقد يرى الرائي بعض قطع الغمام عند غروب الشمس فيظنها الهلال ،
وبذلك يحصل الخطأ ، ويحصل الاضطراب ما بين بلد مسلم وآخر ، وهي إشكالية تتكرر في
كل عام تقريباً ، وتوقع بين المسلمين جدلاً طويلاً ، وعلى سبيل المثال ففي عام 1984 قبلت شهادة شاهد برؤية الهلال يوم الثامن والعشرين من رمضان ، مع أن
الحساب الفلكي أفاد غير ذلك ، وقد تبين لاحقاً أن الشاهد رأى كوكبي عطارد والزهرة فظنهما
الهلال !
مناقشة التعارض بين
النص الشرعي والحساب الفلكي :
لقد تواضع علماء الأصول على جملة
من الشروط التي ينبغي أن تتوافر في الفقيه لكي يكون اجتهاده صحيحاً ، منها أن يكون
عالماً بواقع عصره ، مُطَّلعاً على ما توصل فيه العلم من حقائق ومعطيات ،
وانطلاقاً من هذه القواعد وأشباهها وجدنا الإمام الشافعي رحمه الله عندما انتقل
إلى مصر خرج باجتهادات جديدة في عدد من المسائل التي سبق أن أفتى بها ، لما وجده
في مصر من واقع مختلف عن واقع البلدان التي عاش فيها من قبل ، وهذا يعني أن تنزيل
النص على واقع معين يحتاج إلى معرفة دقيقة بهذا الواقع ( ذلكَ أنَّ مَقَاصِدَ
الكَلامِ وَمَدارَهُ على مَعْرِفةِ مُقْتَضياتِ الأحْوالِ ، إذِ الكَلامُ الواحِدُ
يختلفُ فَهْمُهُ باختلافِ الأحوالِ ، والجَهْلُ بالأسبابِ مُوقِعٌ في الانحرافِ في
الظَّاهِرِ ، ومُفْضٍ إلى النِّزاعِ والاعْتِسافِ ) د.حمادي العبيدي :
الشاطبي ومقاصد الشريعة ، ص 129 ، ولكي يتجنب الفقيه الوقوع بمثل هذه
الإشكاليات ينبغي أن يتمتع ببصيرة نافذة ، ورؤية شاملة لواقع عصره وما استجد فيه
من تغيرات ، وما توافر فيها من حقائق علمية لم تكن معلومة من قبل .
لهذه الأسباب ونحوها أكد فقهاؤنا الأجلاء
على أهمية فهم الواقع عند التعامل مع النصوص الشرعية ، منهم الإمام الفقيه ابن
القيم (751 هـ/1350م ) الذي فصل هذه المسألة فقال : ( ولا يتمكنُ المفتي ولا
الحاكمُ من الفتوى والحُكْمِ بالحقِّ إلا بنوعين من الفَهْم :
أحدهما :
فهمُ الواقعِ ، والفقهُ فيه ،
واستنباطُ علمِ حقيقةِ ما وَقَعَ بالقرائنِ والأماراتِ والعلاماتِ حتى يحيطَ به
علماً .
والثاني :
فهمُ الواجِبِ في الواقعِ ، وهو فَهْمُ
حُكْمِ اللهِ الذي حَكَمَ بِهِ في كتابِهِ أو على لِسَانِ رَسُولِهِ في هذا
الواقعِ ، ثمَّ يطبِّق أحدَهُما على الآخَرِ ، فَمَنْ بَذَلَ جُهْدَهُ
واسْتَفْرَغَ وِسْعَهُ في ذلكَ لم يَعْدَمْ أجَرَيْنِ أو أجْراً ، فالعالِمُ مَنْ
يتوصَّلُ بمعرفةِ الواقعِ والتَّفَقُّهِ فيهِ إلى معرفةِ حُكْمِ اللهِ ورسولِهِ )
ابن القيم : إعلام الموقعين عن رب العالمين ، 1/87 .
ويؤكد أحد فقهاء الأصول المعاصرين
العلاقة العضوية التي تربط ما بين فهم الواقع وبين تأويل النصوص وسلامة تنزيلها
على هذا الواقع ، فيقول : (إذِ التَّفَهُّمُ للنَّصِّ الشَّرعيِّ يبقى في
حَيِّزِ النَظَرِ ، ولا يَسْلَمُ تطبيقُهُ إلا إذا كان ثمةَ تَفَهُّمٌ واعٍ
للوقائعِ بمكوناتها وظروفها ، وتَبَصُّرٌ بما عسى أن يُسْفِرَ عنه التطبيقُ من
نتائجَ ، لأنها الثمرةُ العمليةُ المتوخَّاةُ من الاجتهادِ التشريعيِّ كلِّه) د.محمد
فتحي الدريني : المناهج الأصولية في الاجتهاد بالرأي في التشريع الإسلامي ، ص 5 .
ولكي ندرك أهمية هذه القواعد في
تصويب نظرتنا إلى النصوص يجدر بنا أن نتذكر ذلك الخلاف الشهير الذي وقع في أوروبا
في القرون الوسطى ، بين أرباب الكنيسة وعلماء الفلك ، فقد رفض أرباب الكنيسة مقولات
العلماء ، ونكَّلوا بهم استناداً إلى تفسير أرباب الكنيسة لنصوص الكتب المقدسة
التي كانت بين أيديهم ، غير عابئين بالواقع الذي اكتشفه علماء الفلك من خلال رصدهم
الدقيق للظواهر الكونية ، ولم يحسم هذا الخلاف بين الطرفين إلا بالرجوع إلى الواقع
، أي إلى الحقائق العلمية الدامغة التي أثبتت صحة ما قال به العلماء وخطأ ما قال
به أرباب الكنيسة ، ولهذا ينبغي أن نكون حذرين من التعامل مع النصوص بمعزل عن الحقائق
العلمية التي أصبحت اليوم في حكم اليقين ، فنقع في ما وقع فيه غيرنا ، ونظلم
النصوص برؤيتنا القاصرة ، وننتهي إلى أحكام بعيدة عن مقاصد الشريعة ، ونظل عاجزين
عن تقديم الحلول الصحيحة للنوازل المستجدة ، بل قد يؤدي تجاهل هذه القواعد إلى
خلافات واسعة تهدد وحدة الأمة الإسلامية ، كالخلاف الذي يتجدد في كل عام عند تحري هلال
رمضان ويظهر الأمة الإسلامية بمظهر الشقاق والنزاع !
وانطلاقاً من هذه المقدمات نرى
اعتماد الحساب الفلكي في تحديد بدايات الشهور القمرية ، وهذا لا يتعارض مع النصوص
التي وردت في الكتاب والسنة حول هذه المسألة ، منها قوله تعالى : (فَمَن شَهِدَ
مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ .. الآية ) فإن لفظ ( شَهِدَ ) لفظ عام لا
يعني بالضرورة الرؤية البصرية المجردة ، وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم قال :
( إذا رَأيْتُموهُ فَصُومُوا ، وَإذا رَأيْتُمُوهُ فَأفْطِروا ، فإنْ غمَّ عَلَيْكُمْ
فَاقْدُروا لَهُ ) متفق عليه ، فقد تضمن هذا الحديث الإشارة إلى الرؤية
وأجاز في الوقت نفسه (التقدير) أي الحساب في حال غم علينا فلم تسمح الظروف الجوية
بالرؤية البصرية .
أما قول النبي صلى الله عليه وسلم
: ( إنَّا أمَّةٌ أمِّيَّةٌ لا نَكْتُبُ ولا نَحْسِبُ ، الشَّهْرُ هكذا وَهكذا
، يَعْني مَرَّةً تِسْعَة وعشْرين ومَرَّةً ثلاثينَ ) صحيح البخاري ، كتاب
الصوم . فهو لا يمنع استخدام الحساب الفلكي في هذه المسألة ، فإن قوله هذا هو
من قبيل التسهيل على الأمة في زمن لم يكن متاحاً لها ما هو متاح لنا اليوم من علوم
راسخة كعلم الفلك ، علماً بأن علم الفلك يعتمد في حساباته الفلكية بوسائل عديدة
متطورة جداً ، منها المراصد الأرضية الإلكترونية وغير الإلكترونية ، والمراصد الفضائية
التي تجول حول الأرض ، وكلها وسائل تمتاز بحدة البصر ، وتندرج في إطار (الرؤية) ،
وهذا ما أشار إليه "المجلس الأوروبي
للإفتاء والبحوث" في بيانه الذي نشره يوم
20/9/2004 وجاء فيه : "يثبت دخول شهر رمضان أو الخروج منه بالرؤية البصرية
، سواء كانت بالعين المجردة أم بواسطة المراصد ، إذا ثبتت في أي بلد إسلامي بطريق
شرعي معتبر ... وهذا بشرط ألا ينفي الحساب الفلكي العلمي القطعي إمكان الرؤية في
أي قطر من الأقطار . فإذا جزم هذا الحساب باستحالة الرؤية المعتبرة شرعاً في أي
بلد ، فلا عبرة بشهادة الشهود التي لا تفيد القطع ، وتحمل على الوهم أو الغلط أو
الكذب ، وذلك لأن شهادة الشهود ظنية ، وجزم الحساب قطعي ، والظني لا يقاوم القطعي
، فضلاً عن أن يقدم عليه ، باتفاق العلماء" .
وجاء التأكيد على هذا التوجه في
البيان الختامي للمؤتمر العالمي لإثبات الشهور القمرية بين علماء الشريعة والحساب
الفلكي ، الذي عقده المجمع الفقهي برابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة في الفترة
من 19- 21 ربيع الأول 1433هـ ( الموافق 11- 13 شباط/فبراير 2012 ) فقد ورد في توصياته
: "إن الحساب الفلكي علم قائم بذاته ، له أصوله وقواعده ، وقد كان
للمسلمين فيه إسهام متميز ، وكان محل اهتمام الفقهاء المسلمين ، وبعض نتائجه ينبغي
مراعاتها ، ومن ذلك معرفة وقت الاقتران ، ومعرفة غياب القمر قبل غياب قرص الشمس أو
بعده ، وأن ارتفاع القمر في الأفق في الليلة التي تعقب اقترانه قد يكون بدرجة أقل
أو أكثر . ولذلك يلزم قبول الشهادة برؤية الهلال ألا تكون مستحيلة حسب حقائق العلم
الصحيحة وحسب ما يصدر من المؤسسات الفلكية المعتمدة ، وذلك في مثل عدم حدوث
الاقتران أو في حالة غروب القمر قبل غياب الشمس . وأن تكون رؤية الهلال للأقليات
الإسلامية في البلد الواحد في بعض المناطق والأقاليم رؤية لبقيتهم عملاً على توحيد
صومهم وفطرهم" .
الرأي الفقهي في تحري
هلال رمضان :
في الماضي ذهبت آراء السلف من
الصحابة والتابعين إلى وجوب رؤية الهلال بالعين المجردة لثبوت بداية شهر رمضان ونهايته
، وذلك استناداً إلى النصوص التي وردت في هذه المسألة ، وسبق أن ذكرناها ، لكن مع
ظهور الحساب الفلكي ــ حوالي القرن الثالث الهجري ــ بدأت الآراء الفقهية تتعارض ما
بين رفض مطلق للحساب الفلكي ، إلى الاستئناس به ، إلى القبول به في حال تعذر
الرؤية ، إلى القبول بالحساب في حال استحالة الرؤية ، إلى القبول بالحساب شرط أن
يقترن بالرؤية ، إلى القبول بالحساب الفلكي دون اشتراط الرؤية .
ونذكر من الفقهاء الذين رفضوا الحساب
الفلكي رفضاً قاطعاً ، شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728هـ / 1328م) الذي لم يكتف برفض الحساب الفلكي بل شنع على الذين
يقولون به ، فقال : "فَمَنْ كَتَبَ أو حَسَبَ لَمْ يَكُنْ مِنْ هذِهِ الأمَّةِ
في هذا الحُكْمِ ، بَلْ يَكونُ اتَّبَعَ غَيْرَ سَبيلِ المُؤمِنينَ" ، وقد
نعذر ابن تيمية وأمثاله فيما ذهب إليه إذا علمنا أن علم الفلك في زمانهم لم يكن
دقيقاً كما هي الحال اليوم ، كما أن الناس كانوا في الماضي يخلطون ما بين التنجيم
وبين علم الفلك ، وهذا ما نلمحه فيما نقله ابن حجر
العسقلاني (853هـ / 1449م) عن ابن بزيزة أن اعتبار الحساب هو "مذهب باطل ، فقد نهت الشريعة عن الخوض
في علم النجوم لأنه حَدس وتخمين ، وليس فيه قطع ولا ظن غالب" ، فقد كان
الناس ينظرون إلى التنجيم على أنه من علم الفلك ، وفي هذا خلط واضح ، وللأسف
الشديد مازال نفر من الفقهاء ينظرون إلى علم الفلك اليوم هذه النظرة على الرغم مما
أحرزه هذا العلم من تقدم وتطور ومصداقية .
وبالمقابل نجد من الفقهاء من اعتبر
الحساب الفلكي ولم يرفضه ، منهم الإمام تقي الدين السبكي (ت 756هـ / 1355م)
وهو أحد كبار الفقهاء الشافعية ، فقد قال : "إن الحساب إذا نفى إمكانية
الرؤية البصرية ، فالواجب على القاضي أن يرد شهادة الشهود .. لأن الحساب قطعي ،
والشهادة والخبر ظنيان ، والظني لا يعارض القطعي ، فضلاً عن أن يقدم عليه"
وذكر أن من شأن القاضي أن ينظر في شهادة الشاهد عنده ، في أي قضـية من القضــايا ؛
فإن رأى الحـس أو العـيان يكذبها ردهـا ولا كـرامة . قال : "والبينـة
شـرطها أن يكون ما شهدت به ممكناً حساً وعقلاً وشرعاً ، فإذا فرض دلالة الحساب
قطعاً على عدم الإمكان استحال القول شرعاً ، لاستحالة المشهود به ، والشرع لا يأتي
بالمستحيلات" . انظر : فتاوي السبكي ، مكتبة القدس ، القاهرة .
إلا أن جمهور الفقهاء استمروا يعتمدون
تحري هلال رمضان بالرؤية بالعين المجردة ، عملاً بالنصوص التي وردت في ذلك ،
واقتداء بفعل الصحابة ومن جاء بعدهم ، ومن الغريب أن الفقهاء ــ الذين يرفضون
اعتماد الحساب الفلكي في تحري هلال رمضان ــ لا يجدون غضاضة في اعتماد الحساب
الفلكي طوال أيام رمضان في إمساكهم عن الطعام وفي فطرهم ، ويعتمدون أيضاً الحساب
الفلكي في توقيت الوقوف بعرفة في الحج ، ويعتمدون الحساب الفلكي في بقية الشهور
القمرية ، بل ويعتمدون الحساب الفلكي لمواقيت صلواتهم اليومية ، والصلاة كما نعلم
تأتي في ترتيب أركان الإسلام قبل الصوم وقبل الحج ، وهذه مفارقة غريبة تدعونا أن
نراجع مواقفنا من هذه المسألة التي تثور في كل عام ، وتعيد طرح السؤال نفسه : هل
نتبع الحسابات الفلكية ؟ أم رؤية الهلال ؟ وقد تباينت مواقف الفقهاء منها ، وكان
لكل منهم تصور مختلف :
1.
فقد
أجاز بعض الفقهاء اعتماد الحساب الفلكي في النفي فقط ؛ بمعنى أنه إذا جاء
من يشهد برؤية الهلال ، ودلت الحسابات الفلكية على أن رؤية الهلال مستحيلة أو غير
ممكنة ؛ فإن شهادته ترد ، ومن أشهر القائلين بهذا الرأي تقي الدين السبكي كما
ذكرنا آنفاً ، وممن قال بهذا الرأي من المتأخرين محمد مصطفى المراغي شيخ الأزهر ،
والشيخ علي الطنطاوي .
2.
أجاز
بعض الفقهاء اعتماد الحساب الفلكي في النفي والإثبات ؛ وزاد أصحاب هذا
الرأي عن أصحاب الرأي السابق أنه إذا دلت الحسابات الفلكية على وجود القمر بعد
غروب الشمس بوضع يسمح برؤيته هلالاً ؛ أخذنا بالحساب الفلكي ، ويكون اليوم التالي
أول أيام الشهر الهجري ، وذلك دون اشتراط رؤيته بالعين المجردة ، ومن أشهر
القائلين بهذا الرأي قديماً مُطرِّف بن عبد الله وهو من كبار التابعين ، وأبو
العباس بن سريج وهو من كبار الشافعية في القرن الثالث الهجري ، وابن قتيبة
الدينوري ، ومن أشهر من قال به في عصرنا الشيخ أحمد شاكر ، والشيخ مصطفى الزرقا ،
والشيخ يوسف القرضاوي .
3.
وهناك
فريق آخر من الفقهاء لم يُجز استخدام الحساب الفلكي لا في النفي ولا في الإثبات
؛ فإذا ما جاء من يشهد برؤية الهلال قبلت شهادته ، حتى وإن دلت الحسابات فلكية على
أن القمر لم يكن موجوداً في السماء في ذلك الوقت ، ومن القائلين بهذا الرأي قديماً
ابن تيمية ، وحديثاً الشيخ ابن باز ، تمسكاً منهم بظاهر النصوص ، واعتقاد أن
الحساب الفلكي غير دقيق أو غير قطعي .
موقف الدول الإسلامية
من تحري هلال رمضان :
تختلف الدول الإسلامية في تحديد
بدايات الشهور الهجرية ، على النحو الآتي :
1 - تدعو بعض الدول الإسلامية
المواطنين لتحري الهلال ؛ فإذا جاء من يشهد برؤية الهلال قبلت شهادته ، حتى وإن
دلت الحسابات الفلكية على أن رؤية الهلال مستحيلة أو غير ممكنة ؛ وهو ما جرى عليه
العمل حتى اليوم في العديد من الدول الإسلامية .
2 - في دول إسلامية أخرى ترد
شهادة الشاهد إذا كانت رؤية الهلال مستحيلة ، لكنها تقبلها إن كانت الرؤية غير
ممكنة ، ومثال ذلك المملكة العربية السعودية (ابتداء من عام 1419هـ) .
3 - هناك دول إسلامية لا تعتمد
رؤية الهلال أصلاً ؛ بل تعتمد شروطاً فلكية معينة ، مثال ذلك ليبيا التي تعلن
رسمياً أنها لا تعتمد رؤية الهلال ؛ بل يبدأ الشهر الهجري في ليبيا إذا حدث
الاقتران قبل الفجر .
4 – بعض الدول الإسلامية تتحرى
الهلال كل شهر (وليس فقط رمضان وشوال) بشكل رسمي ، وتعلن نتائج التحري رسمياً
وبشكل فوري عبر وسائل الإعلام ، منها سلطنة عمان ، والمملكة المغربية التي تتحرى
الهلال من 270 موقعاً موزّعاً على أراضي المملكة ، ونجد بالمقابل معظم الدول
الإسلامية تدعو المواطنين لتحري الهلال ، وتقبل شهادة أي مواطن ، وقد يكون هذا
الشاهد على غير علم بالوقت الأنسب للرؤية ، ولا جهة الرؤية ، مما قد يوقع في الخطأ
، وعلى سبيل المثال في عام 1984 صام ملايين المسلمين في السعودية شهر رمضان ( 28
يوماً ) بناء على شهادة أحد الشهود ، ثم تبين أنه رأى بعض الكواكب فظنها الهلال !
5 ــ تأخذ بعض الدول الإسلامية
بمبدأ اتحاد المطالع ؛ فإذا أعلنت إحدى الدول ثبوت رؤية الهلال تبعها دون التأكد
من صحة رؤية الهلال ، ومثال ذلك المملكة الأردنية ، وبالمقابل تأخذ بعض الدول
الإسلامية باختلاف المطالع ، ولا تقبل رؤية الهلال إلا من داخل أراضيها ، منها السعودية
.
الترجيح :
لقد تطور"علم الفلك"
في عصرنا الراهن تطوراً كبيراً ، وأثبتت الحسابات الفلكية مصداقيتها ودقتها لدرجة
متناهية تصل إلى حد اليقين ، وهذا ما يجعل الحساب الفلكي مرجعاً معتبراً يمكن
اعتماده شرعاً في تحديد بداية الشهور القمرية ونهايتها ، وهذا لا يمنع من تحري
الهلال بالرؤية ، على أن يكون الحساب الفلكي هو الحكم عند تعارض الرؤية مع الحساب
، وبما أن الهلال يولد في لحظة معينة ، وأن هذه الولادة لا تتكرر إلا مرة واحدة في
كل شهر قمري ، فهذا يعني أنه إذا ثبت ميلاد الهلال بالحساب الفلكي في أية بقعة من
بقاع الأرض فإن ثبوتها ملزم لجميع أهل الأرض ، ومن ثم فلم يعد هناك مبرر لاختلاف
الأقطار الإسلامية حول بدايات الشهور القمرية ونهايتها ، ومنها شهر رمضان المرتبط
بشعيرة الصوم ، وشهر ذي الحجة المرتبط بشعيرة الحج ، وفي هذا توحيد لكلمة الأمة ،
وقطع للطريق على المرجفين الذين في كل عام يستغلون خلاف المسلمين حول هذه المسألة
للتشهير بالفقه والفقهاء ، وتعميق الخلافات بين المسلمين .
( وآخر دعوانا
أن الحمد لله رب العالمين )
د.أحمد محمد كنعان
Kanaan.am@hotmail.com
المصادر والمراجع :
(1)
القرآن
الكريم .
(2)
الأحاديث
النبوية .
(3)
حمادي
العبيدي : الشاطبي ومقاصد الشريعة ، ص 129 ، دار قتيبة للطباعة والنشر والتوزيع ،
دمشق .
(4)
أحمد
محمد كنعان : ذاكرة القرن العشرين ، دار النفائس ، بيروت 2000 .
(5)
محمد
فتحي الدريني : المناهج الأصولية في الاجتهاد بالرأي في التشريع الإسلامي ، ص 5 ،
مؤسسة الرسالة ، بيروت ، ط 3 ، 2013 .
(6)
أحمد
محمد كنعان : نظرات في علم أصول الفقه ، وزارة الأوقاف ، الكويت 2010 .
(7)
ابن
القيم : إعلام الموقعين عن رب العالمين ، 1/87 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق