جرتْ عادةُ كثير
ممَّن يدَّعون العلم في عصرنا أن يسارعوا إلى الحكم على أيّ مسألة فكريَّة،
دينيَّة كانت أم غير دينيَّة بأنَّ السَّابق قد أحاط بها خُبرًا، وأجاد فيها
أيَّما إجادة، وقد بعجَها ولم يترك شيئًا منها، جاعلين من قولهم: «لم يتركِ
السَّابق للاحق شيئًا» قاعدة ينطلقون منها في ردِّ كلِّ ما هو جديد بجملته، أو
بشيء من أفكاره.
وغالبُ ظنِّي أنَّ
مثل هذا القول والحكم ناتجٌ إمَّا عن جهلٍ من قائلِه بما قصده أهل العلم
السَّابقون، وإمَّا عائد إلى تعصُّبٌ «مذهبيّ» أو «طائفيّ»؛ لأنَّه يبتعد كثيرًا
عن جوهر الفكر والعلم والدِّين، ويجعل سياجًا فكريًا دائمًا حول العقل، ويرهنه بما
وصل من موروث فكريّ أو فقهيّ أو تفسيريّ.
ومثل هذا الكلام ليس
بجديد في دعوى من يقول به في هذا العصر، فقد سبق أن وقع فيه ممَّن له فضل من
العلم، فقد أكّده غير واحد ممَّن سبق كصاحب «مراقي السُّعود» إذ يقول:
والمجمع اليوم عليه الأربعَهْ
|
|
وقفوا غيرها الجميع منعَهْ
|
حتى يجيء الفاطم المجدِّدُ
|
|
دين الهدى، لأنَّه مجتَهِدُ
|
ويقصد بـ«الفاطم»: «المهدي»
المنتظر؛ لأنَّه بزعمهم سيعود، وهو شريف، ولا أدري سبب ذكر صاحب «المراقي» لهذا
إلا لتعصُّبه وتشدُّده؛ بل إنَّه خالف نفسه، وناقضه في موضع آخر حيث قال:
والأرضُ لا عن قائمٍ مجتهدِ
|
|
تخلو إلى تزلزل القواعدِ
|
ومثل هذه الدَّعوى،
بانسداد باب الاجتهاد هي دعوى باطلة، ولا تثبت عند التَّحقيق، بل هي مبالغة وغلوٌ
من صاحبها؛ لأنَّها تتضمَّن من طرفٍ خفيٍّ الحكم على الله سبحانه وتعالى بلا مستند
ولا دليل، ومخالفتها نصَّ القرآن الكريم، لأنَّها تشير وتؤكِّد أنَّ الله محكوم
عليه ألا يخلق مجتهدًا، ولا يعلِّم أحدًا من خلقه علمًا يفتح له من خلاله باب
الاجتهاد إلى وقت ظهور «المهدي»، تعالى الله عما يصفون علوًا كبيرًا، ولا يجوز
لعاقل يريد الحقَّ والإنصاف أن يعتقد بها، أو يلتزمها.
والأغرب
من ذلك أن صاحب هذا القول قد حصر العمل بـ«الكتاب» و«السنَّة» بأصحاب المذاهب «الأربعة»،
ولا يجوز لأحدٍ أن يقلِّد غيرها، وأكَّد أنَّ القوم مجمعون على ذلك في قوله:
والمجمع اليوم عليه الأربعَهْ
|
وهذا هو المقرَّر
للأسف في كتب المتأخرين من «الأصوليِّين» من أهل المذاهب «الأربعة»، ولا شكَّ
أنَّها دعوى باطلة، وتحجير وتضييق على «المسلمين» إلى قيام السَّاعة، وغلوٌ من
أصحابها ليجعلوا من أنفسهم أرباب العلوم ولا أحد سواهم قد يرقى إلى ما وصلوا إليه.
وفي
الوقت نفسه لا يستطيع أحدٌ أن يتحرَّر من مثل قولهم الذي أصبح غالبًا سمةً عامَّة
لعلماء العصر أو من في مرتبتهم إلا إن امتلك قوّة العقل، وحنكة المقارنة، وزال عنه
التَّعصُّب «المذهبيّ»، ولم يعمه عن إدراك حقيقة إنكاره، وبطلان أداوته.
فقد
ثبتَ في «الصَّحيحين» وغيرهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تزال
طائفةٌ من أمَّتي ظاهرين على الحقِّ، لا يضرُّهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله»، وهو
دليل صريح على بطلان دعواهم السَّابقة، وأنَّ هذه «الطَّائفة» لا تزال على الحقِّ
الذي هو «كتاب» الله سبحانه وتعالى، وما وافقه من «سنَّة» رسوله الله صلى الله
عليه وسلم.
لكن
يأبى التَّعصُّب إلا أن يأخذ بالعقول، ويستأثر بالألباب، إذ ذهبتْ كلُّ «طائفة» من
طوائف المسلمين في عصرنا الحاضر إلى أنَّها المعنيَّة بهذا «الحديث»، وأنَّها ظاهرة
على الحقِّ، وأنَّ من خالفها ظاهر على الباطل وفي الضَّلال المبين، في تسيس واضحٍ
لـ«لحديث»، وإبعاد له عن جوهره ومضمونه.
د.
محمد عناد سليمان
8 / 6 / 2014م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق