في السنة الثامنة للهجرة
كان المسملون والمشركون في هدنة صلح الحديبية لا يتعرض فريق لفريق، بل اتفقوا على
حفظ الأمن، كل في سلطانه. وفي شهر رجب من تلك السنة بعث رسول الله صلى الله عليه
وسلم سرية إلى أرض جهينة يتلقوا عيراً
لقريش يحفظونها من اعتداء قد تقوم بها جهينة على القافلة، وأمَّر عليها أبا عبيدة بن الجراح، وكان مع كل منهم زادُه الخاص، وزوّدهم رسول
الله صلى الله عليه وسلم جراباً (وعاءً من
جلد) كبيراً من تمر لم يجد غيره إذ ذاك، فكنا نأكل من أزوادنا حتى فنيت، وكنا ثلاث
مئة رجل.
ثم أخذ أبو عبيدة يعطينا
من الجراب بضع تمرات – أول الأمر – فلما خشي سرعة فنائه، بدأ يعطينا كل يوم تمرة
واحدة كنا نمصّها كما يمصّ الصبيّ، ثم نشرب عليها الماء فتكفينا إلى الليل.
فلما طال علينا هذا، ضربنا
بعصيِّنا الخبطَ (ورق شجر معروف تأكله الإبل) فيتناثر الورق، فنبله بالماء ليخضر
وتذهب خشونته فنستيسغه فنمضغه، وكان هذا طعامنا، ولا بد من الصبر وجهاد النفس فهما
عدة النصر.
ثم انطلقنا إلى ساحل البحر
الأحمر فرأينا على الماء كثيباً من الرمل ضخماً فأتيناه فإذا هو سمكة ضخمة جداً
طولها خمسون ذراعاً، قذفها البحر فماتت، وتدعى حوت العنبر.
فلما دنونا منها وقد أخذ
الجوع منا كل مأخذ منعنا عنها أميرنا لأنها ميتة، فأرشده الله تعالى للصواب فقال:
لا تحرم الميتة للضرورة، ثم أردف قائلاً: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عن البحر حين سئل: ((هو الطهور ماؤه، الحل
ميتته))، ونحن هنا في طاعة الله وفي جهاد أعدائه وأعداء نبيّه، وهذا رزق ساقه الله
إلينا، صلى الله عليه وسلم وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ
يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ صلى الله عليه وسلم
اتق الله سائر الأزمان لا تخفْ من طوارق الحدَثان
يرزق الله متّقيه ويكفيه فهذا قد جاء في القرآن
فأقمنا نأكل منه شهراً حتى
سمنّا، وظهرت النضارة في وجوهنا، وبدت القوة في أجسادنا.
وكنا لضخامته نغرف من عينه
الدهن بالجرار، ونقطع قطعة اللحم الضخمة في حجم الثور، فنشويها، فتكون لذيذة
الطعم، سهلة الهضم، طيبة المذاق.
وقد جلس ثلاثة عشر رجلاً
في نقرة عينه فوسعتهم، ورفعنا عظماً من عظامه – والعظم محدودب – فمرّ من تحته أعظم
بعير كان معنا عليه رحلُه، وتزودنا من لحمه القديد وانطلقنا بعد ذلك إلى المدينة
فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثناه بما رأينا وما أكلنا منه، فكفانا فقال:
((هو رزق أخرجه الله لكم، فهل معكم من لحمه شيء فتطعمونا؟)).
فأرسلنا إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم منه، فأكله.
رياض الصالحين: باب فضل
الجوع وخشونة العيش
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق