لا توجد في الطبيعة نغمة خاصة للأقليّة تهيمن على الإيقاع إلا في الفصول القصيرة العابرة، وفي طفرات
وحالات مؤقّتة طارئة. حتى عندما يأتي
طاريء فرعي ليستحوذ على الحضو ر، يصير نشازا، إلى أن يعود العالم إلى اتّساقه
الطبيعي.....
السياق هو الذي يمنح كل الأضداد تناغم السير
في الزمن والفضاء. ولا يمكن ان يستمر الناعب في إعلاء النعيب على توازن الإيقاع؛ لذلك فخرافة التفيكيك بحجة حماية كل المكوّنات،
وحقوق الأٌقليّة
لا يمكن أن تستمر في ظل إقصاء حقوق الأغلبية والهيمنة على الواقع.
الشعب السوري ليس على حالتين ثابتتين للأبد: سلة من أقلّيات، أو عقل جمعي سنّي واحد ؛ كأنّه قدر شتات أو
نسخةثابتة مكرّرة كما يجري الإيهام بذلك. هو شعب متنوّع الرؤى
الدينية والمسلكيّة، في عموميّة إسلامية، ولا يمكن لعملية تفكيكه أن تلغي بنيته الفاعلة الرابطة
بين البنى الفرعية، أو صهر إسلامه قهريا في ظاهرة مصطنعة وغريبة لإرضاء غايات حروب الإرهاب ومنظمّات
التبشير السياسيى العقيدي.
صحيح أن المتناقضات حادة، وأنّ الإسلام
بحامله العربي عاجز عن القيادة بسبب آلية التفكير التقليدية الجامدة، وقد وصل إلى حافّة
الهاوية، لكن لايمكن التنبؤ بمحو تياره العام، بناء على نمطيّة وفكرة راسخة. فالاستحقاق
التاريخ الملح يفرض عليه البقاء بالانتفاض
والثورة، للتغلب على عجزه وعطالته. داعش ومثيلاتها لسن أكثر من عصابات فئوية إرهابيّة، ولا
تمثل فكرا إيمانيا عقائديا ولا مشروع عمل سوى التدمير والتسلّط بحد السيف.
منذ بداية الاستقلال في سوريا، توسعت حركة التجارب السياسية على حساب الحركات
النهضويّة الإسلامية ، وجرى العمل على
تفكيك الهوية السورية وإقصاء الدين كمكوّن مجتمعي ووطني فاعل، بتحويله إلى ما يشبه الديكور
الاجتماعي والجماعاتي، وإلى عصبوية جاهلة أو مادة خرافية معوقة للواقع، وتجميده. ورعت
الأحزاب، بالمقابل هويات بديلة تحت مسميات
العلمانيةّ والقوميّة والاشتراكية؛ فكان أن تغلّب الدخيل على الأصيل، ففشلتظن
واقعيّاً، قيميا ووطنيا وفكريّا، واقتصرت
إنجازاتها على ترسيخ حكم الطغيان
في بلادنا..وزيادة تخليف الإنسان عن ركب
المدنيّة والتطوّر والغلو في تطبيق مبادئه السامية وتفقير اقتصاده وقيمه وكبح نمو الحياة
المدينيّة والمدنية الناشئة والقديمة،
ودفعها نحو الانهيار الحضاري عبر التمدد في عشوائيات بدوية وريفية، وفي تجمّعات
سكنيّة اقرب إلى مستوطنات طائفيّة وفي ثكنات عسكرية وأمنية، مرتع الطغاة وأقبية البطش والاستبداد... فتمدّدت أحقاد
ومظلوميّات وتحاصصات.
لتكريس ذلك الوضع الاجتماعي السياسي جاءت
رعاية النظام السياسي رعاية ممنهجة للمحافل
الدينية التجهيلية والانتهازية المتوافقة مع السلطة وأنظمة الاستبداد، مما زاد في شرخ المجتمع بين طائفي علماني وبين
ليبرالي احتكاري وبين متدين جاهل ومجهّل
وبين غوغائي عابث. بين عميل للنظام، ومقموع من النظام، وجبان، داخل مذاهب وطرق
وطوائف وتوجهات فوضوية، لا علاقة لها
بالإيمان والفكر والاعتقاد، بقدر مالها ارتباط وثيق بالقطيعيّة، وجرى استغلال المنتفعين والفقراء والاقل حظا، خصوصا في البيئات الغارقة في فقرها
وبؤسها وولائها المذهبي الضيق، وتجنيدهم
في جيوش من مرتزقة وأتباع في خدمة الاستبداد باسم ثورة الفقراء، وباسم القومية
والدين. وتكرّست ظاهرة زعماء الطرائق والمافيات
ورؤوساء الشركات والاحتكارات وأمراء الثقافة والفقه و عصابات الاستخبارات. وتحوّل كثير علماء المدن في مختلف الطوائف والمذاهب إلى رجالات
النظام السياسي وعبيده، يجري تعيينهم ودعمهم وتقوية نفوذهم وشعبيتهم ومؤسسات عملهم
وفق تخطيط مخابراتي وبتعيين مخابراتي، يتوافق مع استراتيجيّة النظام الحاكم. كذلك جرى تطويع النّخبة الاقتصاديّة لتحتكر
وتنهب وتصبح في خدمة النظام والسّلطة.
الثورة
السورية انلعت من تحت رماد هذا القهر، وجاءت
من ضمير الشعب للتغيير ورد الاعتبار للإنسان والمجتمع، لكن ّ السخرية أن تصدّى لتمثيلها وقيادتها معارضات
منسوخة عن منظومة النظام، من العقلية
الفاسدة ذاتها، غاطسة بالفئوية والعصبويّة
والانتهازيّة والقطيعيّة، وقد آذت الثورة بشدّة، وأطالت في عمر النظام ومنظومته بما تجذّر فيها
من فساد وعصبويّات وبما ساد فيها من صراعات وضحالة في فقه السياسة الواقعيّة، وبما مارسته من تبعية
لأطراف خارجيّة لها مصالح في تطويع الثورة أو استثمارها.
لا خيار أمام الشعوب العربيّة وشركائها على
الأرض، من حملة الهوية الإسلاميّة وهويات
عقيدية أخرى أيا كان نوعها من خوض عملية التحرر ، بكل أشكالها والانتفاض على
الإقطاعيّات الفكرية الرجعية والدينيّة وأمراء الحرب من جميع الأقليّات الدينية وغير
الدينية، وعلى موروث يلزمه تنقية وتطهير واصطفاء.
ولا شيء يغير الذهنيّة السلبيّة
المحيطة بالعرب والإسلام أو يعرقل
مساعي الحرب عليهم لتطويعهم واحتوائهم قبل
أن ينهضوا ويتمكنوا، سوى خوض النضال
الفعلي من أجل الحرية والتجديد
والنهضة بالقوّة. أما موضوع تقسيم الجغرافيا العربية وفق الاثنيات العرقية
والدينية؛ فهو جزء من الحرب، ولا جديد
فيه. ولا مستجد. وهو مستمر، ولا تنفع معه
المناظير العاطفيّة السابقة الخاوية من التجديد الفكري والقيمي والاجتماعي. ولا
التهويل او التجاهل؛ فلابدّ مواجهته بشراسة، ومن تأكيد وحدة الأرض والدولة داخل سياق وطني شامل جامع
لمجتمع غني متنوّع. ولا يكون ذلك من دون قوّة كفاح، ومن دون ثقة بالحق والهدف
وإخلاص في العمل، وحسم موضع الولاء الوطني والهويّة.
د. سماح هدايا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق