لقد بدأت «الثَّورة
العراقيَّة» في مراحلها الثَّانية والتي اعتمدت العمل العسكريَّ منهجًا وطريقًا
بعد سنوات من التَّحضير والتَّرتيب، وبعد استقراء ردَّة الفعل الإجراميَّة «الأسديَّة»
في التَّعامل مع «الثَّورة السُّوريَّة»، فلم يتمسَّكوا بالخيار السِّلميّ طويلاً،
فجنحوا إلى الطَّريق الذي رأوا فيه خيارًا أفضل في التَّعامل مع الأنظمة
الاستبداديَّة القائمة.
وسأخصِّصُ القول هنا
على طريقة «صوفيَّة» كان لها بصمةً تاريخيّة في الظُّهور جنبًا إلى جنب مع ثوَّار «العراق»،
وهي ما يعرفها أهلها بـ«الطَّريقة النَّقشبنْديَّة»، وهي طريقة ذات أصول «تركيَّة»
تعود نشأتها إلى مؤسِّسها «محمَّد بهاء الدِّين البخاريّ» المتوفى سنة 791هـ.
ويُلقَّب بـ«شاه نقشبند» أو «خواجه نقشبند»، ويقول عنه «عبد المجيد الخانيّ»: «بحر من العرفان لا ساحل لـه؛ نسجت أمواج
أمواه العلوم الربّانيّة حلله؛ وفاض على العالمين بحر برّه؛ فأروى بأرواح إمداده
جميع الكون بحره وبرّه»، ثم يبالغ ليجعله نبيًا لولا أنَّ محمَّدا صلى الله
عليه وسلم خاتم الأنبياء فيقول: «ارتضع
ثدي التّصرّفات الغوثيّة وهو في المهد صبيًّا؛ وتضلّع من رحيق مختوم العلوم
الختميّة بأكواب الإرثيّة؛ فلو لم تُختَم النُّبوّةُ لكان نبيًّا».
ويزعمُ شيوخهم أنَّ
طريقتهم هذه منسوبة إلى «أبي بكر الصِّديق» عبر «سلسلة» يُطلقون عليها «سلسلة
السَّادات» تبدأ بـ«الصِّديق» وتنتهي بـ«خالد البغداديّ»، وقد سمعتُ من شيخنا
أنّها آلت في «دمشق» إلى الشِّيخ «أحمد كفتارو» في زمانه.
ولا بدَّ لـ«لمريد»
من أن يكون عارفًا بهذه «السُّلالة» حتى لا يُحرم من الفيض الإلهي، وفي ذلك يقول
شيخهم «محمد أمين الكرديّ»: «ينبغي للمريدين أن يعرفوا نسبة شيخهم، ورجال السلسلة
كلها من مرشدهم إلى النَّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّهم إن أرادوا أن يطلبوا
المدد من روحانيتهم، وكان انتسابهم إليهم صحيحًا حصل لهم المدد من روحانيَّتهم،
فمن لم تتصل سلسلتُه إلى الحضرة النَّبويَّة فإنَّه مقطوع الفيض، ولم يكن وارثًا
لرسول الله صلى الله عليه وسلم».
ولا
شكَّ أنَّ مثل هذا الزَّعم المنسوب إلى «أبي بكر الصِّديق» هو زعم باطل، لا يثبت
عند الدِّراسة والتَّحقيق، ويثبت أنَّ الأسانيد مقطوعة ولا صلة في «السّلسلة» التي
يدَّعونها، ولكنَّه جريٌ كغيرها من الطُّرق إلى إثبات صحَّتها من خلال نسبتها إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو إلى أحدٍ من «الصَّحابة» رضوان الله عليه.
ويجعل أصحاب هذه الطَّريقة «جعفر الصَّادق» بن «محمد الباقر» الحلقة
الرَّابعة من «سلسلة السَّادات»، إلا أنَّ المصادر التي ترجمت لـ«جعفر» كـ«حلية
الأولياء» لـ«أبي نعيم الأصفهانيّ»، و«الطبقات لـ«ابن سعد»، و«تذكرة الحفَّاظ» لـ«لذهبيّ»،
و«وفيات الأعيان لـ«ابن خلِّكان»، و«شذرات الذَّهب» لـ«ابن العماد»، وغيرها لم تشر
من قريب أو من بعيد إلى ما ينسبه أهل «الطّريقة» إليه.
لقد كانت الطَّريقة «النَّقشبنديَّة» بزعامة «خالد البغداديّ» المتوفَّى سنة
«1242هـ»، ومخترع «الرَّابطة» عند عنودته من «الهند» عام «1226هـ» سلاحًا قويًا
لدى السُّلطة «العثمانيَّة» في وقتها من أجل الوقوف في وجه «الوهابيِّين» الذين
ثاروا عليها؛ من جهة، لأنَّ عقيدة الطَّريقة تختلف اختلافًا كبيرًا عن عقيدة «السَّلفيَّة»،
و«الوهابيَّون» يرون في أنفسهم جزءًا من «السَّلفيَّة»، وإخماد الثَّورات التي
اندلعت في المناطق «الكرديَّة» من جهة ثانية.
وهاهي اليوم تعود إلى الظُّهور كعنصر سياسيّ أصيل في النِّزاع الحاصل في
منطقة «الشَّرق الأوسط» مع اختلاف في النَّهج، إذ برزت واضحة إلى جانب «الثوَّار
العراقيِّين» الذين عانوا من الظُّلم السِّياسيّ والاجتماعيّ المعتمد على الإقصاء
من حكومة «المالكي» على مدى الأعوام الماضية؛ بل أرى أنَّها تمارس عملها السِّياسيّ
الذي قامت عليه في أصلها، سواء أكان شيوخها يعلمون ذلك أم لا.
فالطَّريقة «النَّقشبنديَّة» ترتكز في أصلها على تبعيَّة «المريد» المطلقة لـ«لشَّيخ»، أو صاحب «السِّلسلة»
وهو ركْن مكَّنها من السَّيطرة على عقولهم وقيادتهم في الاتجاه الذي تُريد،
لأنَّها تتخذ من قاعدة «لا تعترض فتُطرد» أساسًا في إخضاع «المريد» وتمكين «الشِّيخ»
منه؛ لأنَّ مجرَّد اعتراضه بزعمهم كفيل لطرده من رحمة الله التي لا توجد إلا عند «شيخهم»،
تعالى الله عمَّا يقولون علوًا كبيرًا.
وإذا كان هذا حال «النَّقشبنديَّة العراقيَّة» فإن حال «النَّقشبنديَّة
السُّوريَّة» أسوأ وأدهى؛ لأنَّها كما يظهر آثرت الصَّمت في ظلِّ الممارسات «الإرهابيَّة»
التي تقوم بها «ميليشيات» «الأسد» في «سوريا»، وفي «دمشق» خاصَّة؛ لأنَّها مرتع
انتشار «الطَّريقة»؛ بل إنَّ دروس شيوخها ما زالت قائمةً على قدم وساق، ومازالت
الدَّعوات لـ«الرَّئيس» تتعالى في «المساجد» على اعتباره رئيسًا مؤمنًا طائعًا
لله.
بل أستطيع الجزم بأنَّ «النَّقشبنديَّة» «الشَّاميَّة» تمارس مهمَّتها «الاستخباراتيَّة»
على أكمل وجه في السَّيطرة على «دمشق» و«ريفها»، وهو منهج ليس بالجديد عليها، فقد كان
العقيد «حسين حلميّ» الذي دسَّته أجهزة المخابرات «التُّركيَّة» حينها في صفوف
أتباع هذه «الطَّريقة» لنشر عقائدها على مدى ستين عامًا خيرً دليل على دور «الأنظمة»
فيها.
وقد كنتُ «نقشبنديًا» لمدة تزيد على سبعة عشر عامًا، وقد ذكرت ذلك في مقدمة «كتيِّب»
صغير صادرته أجهزة الأمن السُّوريَّة عام «2004م» بإيعاز من بعض «مشايخ الطَّريقة»
ذكرت في مقدِّمته سبب تعلُّقي بالطَّريقة وشيخها فقلت: «ولا عجب في ذلك، إذ إنَّ
الطَّفل الصَّغير أراد أن يتعلَّم كتاب الله وسنَّة نبيِّه، فذهب إلى أقرب مسجد،
ويكاد يكون المسجد الوحيد في الحيّ، فما يقوله الشِّيخ هو الحقّ الذي لا يأتيه
الباطل من بين يديه ولا من خلفه».
وذكرتُ فيه ما جرى من وقائع وأحداث رأيتها ووقعتُ عليها من تصرُّفات «مشايخ
النَّقشبنديَّة» في «دمشق»، كاستئذان الشَّيخ «أحمد كفتارو» من الشِّيخ «محمد أمين
الكردي» وهو في قبره في الطَّابق الأرضي في «مجمع أبو النُّور» ليبدأ بدرسه؟! بل
وجعلوا توسعة المسجد إلى قبره جانب النَّهر من كرامته رحمه الله.
وكذلك إصراره «أحمد كفتارو» على اعتقاد «العصمة» فيه، ممَّا أدَّى إلى خلاف
كبير بين بعض «العلماء»، وتدخَّل الشيخ «عبد الفتَّاح البزم» مفتي «دمشق»، وكان
حينها مديرًا لمعهد «الفتح الإسلاميّ» لرأب الصَّدع حينها، وهذه من الخفايا التي
لا يعلمها «المريدون»؛ لأنَّهم وصلوا إلى مرحلة التَّبعيَّة المطلقة التي لا يجوز
معها الطَّعن في قول أو تصرّف «الشَّيخ».
إضافة إلى مساجلات كثيرة، واستفسارات عدَّة أدَّت في النِّهاية إلى «طردي من
رحمة الله »كما يزعمون، وأصبحتُ معاديًا لله ولدينه، مع أنَّ حقيقة الأمر أصبحتُ
معاديًا لـ«لنِّظام» وزمرته ممَّن جعلوا الباطلَ حقَّا، وزيَّنوا لأنفسهم سوء أعمالهم.
ومثل هذه «الطَّريقة» مما لا شكَّ فيه خير سلاح يستثمره «النِّظام» في
استمرار التَّهدئة في العاصمة السِّياسيَّة، ومنع أي تحرُّك ضدَّه فيها، ولعلّه
السَّبب الرَّئيس في الهدوء الذي تعيشه «دمشق» حتى الآن، بفضل علماء «الشَّام»
خاصَّة، و«مشايخ النَّقشبنديَّة» عامَّة.
د. محمد عناد سليمان
22 / 6 / 2014م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق