حمَّل بعض
العلماء السَّابقين كلام الله ما لا يحتمل؛ بل أخرجوه عن سياقه، اجتهادًا منهم في
تأويله، وإن كان السِّياق بخلافه، ودرج اللاحقون على جعلها قاعدة ثابتة، ونتيجة
صحيحة من نتائج القوم دون البحث فيها، أو تكليف النَّفس عناء البحث في جوهرها.
من ذلك زعمهم
بأنَّ قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ
فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}الحشر7. أصل لاعتماد سنَّة النَّبيّ صلى الله عليه وسلم
منهجًا وتشريعًا، وإلزام الأمَّة بذلك، وهو بلا شكّ فهم خاطئ، وتوجيه بعيد للآية،
يدلُّنا عليه أمور:
أوَّلها:
أنَّ الآية خاصَّة بالغنائم، ولا علاقة لها بالتَّشريع، وهم قطعوا الآية من
سياقها، كفعل من قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ}النساء43،
وقوله: {فَوَيْلٌ
لِّلْمُصَلِّينَ}الماعون4، ثم سكت.
والآية
بتمامها: {مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى
رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى
وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً
بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا
نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ
الْعِقَابِ}الحشر7.
(الرَّازي)
في (مفاتيحه): (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) يعني ما أعطاكم الرسول
من الفء فخذوه فهو لكم حلال وما نهاكم عن أخذه فانتهوا (واتقوا الله) في أمر الفيء
(إنَّ الله شديد العقاب ) على ما نهاكم عنه الرسول).
إلا أنَّ
اجتهادهم أدَّاهم إلى تحريف (القرآن) بالتَّأويل، ليجعلوا من الآية دليلا عامَّا
على كلِّ ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، من ذلك ما قاله (المهدويّ) فيما
يذكره (القرطبيّ) في (أحكامه): (قال المهدوي: قوله تعالى: وما آتاكم الرسول فخذوه
وما نهاكم عنه فانتهوا هذا يوجب أن كل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أمر من
الله تعالى. والآية وإن كانت في الغنائم فجميع أوامره صلى الله عليه وسلم ونواهيه
دخل فيها. وقال الحكم بن عمير - وكانت له صحبة - قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن
هذا القرآن صعب مستصعب عسير على من تركه ، يسير على من اتبعه وطلبه ، وحديثي صعب
مستصعب وهو الحكم ، فمن استمسك بحديثي وحفظه نجا مع القرآن ، ومن تهاون بالقرآن
وحديثي خسر الدنيا والآخرة . وأمرتم أن تأخذوا بقولي وتكتنفوا أمري وتتبعوا سنتي ،
فمن رضي بقولي فقد رضي بالقرآن، ومن استهزأ بقولي فقد استهزأ بالقرآن. قال الله
تعالى : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا).
وهو أمر سار
عليه كثيرٌ من أهل التَّفسير والفقه، واعتمدوه أصلا في ذلك، حتى إنَّ (أبا حيَّان)
جعل ما استنبطه (الشَّافعيّ) من غرائب الحكايات في الاستنباط في مسألة قتل
(الزَّنبور) حيث يقول: (ومن غريب الحكايات في الاستنباط: أنَّ الشّافعي، رحمه الله
تعالى، قال: سلوني عما شئتم أخبركم به من كتاب الله تعالى وسنة النّبي، صلى الله
عليه وسلم. فقال له عبد الله بن محمد بن هارون: ما تقول في المحرم يقتل الزنبور؟
فقال: قال الله تعالى: ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) . وحدثنا
سفيان بن عيينة، عن عبد الملك بن عمير، عن ربعي بن خراش، عن حذيفة بن اليمان، قال:
قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر. وحدثنا
سفيان بن عيينة ، عن مسعر بن كدام ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب ، عن عمر بن
الخطاب ، أنه أمر بقتل الزنبور . انتهى . ويعني في الإحرام . بين أنه يقتدى بعمر ،
وأن الرسول، صلى الله عليه وسلم، أمر بالاقتداء به، وأن الله تعالى أمر بقبول ما
يقول رسول الله، صلى الله عليه وسلم).
ثالثها:
أنَّ اعتماد منهج (تفسير القرآن بالقرآن) يفنِّد هذه المزاعم، ويبطلها، ويبيِّن
لنا بوضوح أنَّ الآية مقصود بها (الفيء) و(الغنيمة) وما يتعلَّق بها من صدقات
وغيرها، حيث جاء قوله تعالى في موضع آخر:
{وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا
رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ
رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ
سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُون*
إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا
وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ
اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ
حَكِيمٌ}التوبة60.
و(القرآن
الكريم) يفسر بعضه بعضًا، ولا وجه لمن جعل الآية عامَّة في كل ما جاء به رسول الله
صلى الله عليه وسلم، وإنَّما هو من باب تحريف (القرآن) بالتأويل كما أشرنا غير
مرَّة والله تعالى أعلم.
د. محمد عناد
سليمان
21 / 7 / 2014م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق