الحقائق لا لبس فيها واضحة وضوح الشمس؛ لكنّ السّرد السياسي والخطاب الإعلامي يعملان بمنطق آخر، ويستخدمان التضليل، ضمن منكهات المبالغة والتشويق لنسج قصة
واهمة، بما يلائم مخيلة المتحكّمين بالرّواية العامة، ويخدم أغراض السلطة والتحكّم.
الموضوعية والحقيقة مجرد ادعاء ودعاية لتمتين شرعية المهيمن.
فهل يمكن إنكار أنّ:
نظام بشار إرهابي طائفي مستبد يقتل؟
نظام المالكي إرهابي طائفي مستبد يقتل؟
إيران تدعم نظامي بشار والمالكي؟
إسرائيل تقتل الشعب الفلسطيني وتحتل وأرضه؟
امريكا غزت
العراف واحتلته ثم خرجت وسلمته لهيمنة إيرانية؟
روسيا تعمل لحماية مصالحه بمحاربة
الثورات؟
حقائق، لكن يجري التعامل معها بتضليل وخداع؛
فالأدمغة السياسية تنسج على منوالها الحكايات وفصول الدراما. الجاهلون والقطيع هم الذين يصدقون القصص، التي ما انفكت الآلة الإعلامية التي
يديرها الغرب والشرق بالمال النفطي، تغسل العقول والدماغ، وتعبث الأهواء والرغباتء وفق خط سيرها. وعموم البشر أسير اهوائهم، يتركونها تقودهم ؛ فيسهل
بذلك على قوى الهيمنة التحكم وجرهم إلى مخططها.
لكل حضارة فلسفة ومغزى. حضارة الغرب والعالم الحديث، تدور حول الربح والهيمنة؛ فهي حضارة المال والتجارة
الحرة والاستهلاك وتسويق المتعة الرخيصة والسّريعة. وكل إنتاج يقع ضمن هذه العلاقة.
فالقوة للمكسب والربح والنفوذ، وبالمقابل تجري محاربة كل ما يمنع تحقيق المكسب ويعرقل
سيطرة السوق والهيمنة. ولو كان الإعلام، كما
يدّعي، يرصد الحقيقة، ويدافع عن الحقوق والمثل وحرية الآراء؛ فإن الشركات الكثيرة ستقفل أبوابها، والأعمال
الكبيرة سيتوقف معظمها. قلة هم الخارجون عن الهيمنة والترويض، الذين يقدرون على
الاحتفاظ بحرياتهم وعقولهم داخل ذواتهم والتفكير بموضوعيّة خارج الاستهلاك
المعرفي والسوقي. بينما عموم الجماهير تسير وفق متطلبات القوي والحاكم الذي
يدير عجلة المال والسياسة والإعلام.
ماحصل في الربيع العربي عرقل سير اللعبة الدائرة، فبدأت تتغير الخيارات والإرادات مع انفجار الانتفاضات الشعبية؛ وخاض الواقع العربي في المعارك وويلات الحروب؛ ولم يعد
مقبولا أن يظل مربوطا برسن العبوديّة والاستغلال؛ وقد فجّر كبت القرون وقهرها؛ وسار بزخمه للتحررّ ومحاربة ظالميه وقاهرية والمطالبة بحقوقه. وليس صحيحا ما تروجّه الخطابات السياسية والآلة
الإعلامية من فشل الثورات العربية وهزيمة العقل التحرري العربي وانهيار المشروع التّحرري.
الإخفاقات جزء من دورات ومراحل. وما يحصل الآن في العراق وفلسطين سيكون له تداعياته وامتداده الكبير،
. الربيع العربي الذي يحاولون احتلاله قلبه
وعقله بداعش وحالش، أصبح عصيا على الاحتواء.
وهناك مرحلة جديدة من الحراك الشعبي العربي ستفتح فصلا جديدا في التوسعة، رغم المجازر. ورغم تكاتف حكومات العالم
مع أنظمة الاستبداد ورغم عدوان إسرائيل على غزة..
الاستشفاف الاستراتيجي مهم جدا. ويبدو أن السلام والتوازنات الدولية سقطا بسبب العجز
عن إعطاء الناس مكاسب وطنيّة وسيادية، ولم يعد ممكنا سوى القتال، وليس بمستبعد أن يتطور الحراك الجماهيري الثوري، ويمتد بما يخيف إسرائيل وحلفاء إسرائيل
ومشروع إسرائيل. هناك حقيقة تاريخية، لايمكن إغفالها، بأنّ الحرب كلها في بلادنا لحماية
مشروع احتلال العقل العربي والاستيلاء على مصيره، من خلال حماية إسرائيل، وبالتالي يجب إدرارك طبيعة الحرب لاستنباط آلية
العمل الأصح؛ خصوصا أن لأنظمة الحاكمة والطاغية في البلاد العربية وماحولها، هي حليف لإسرائيل. أما إيران وغيرها؛ فجزء من مخطط صهيوني واسع. لم
يعد ممكنا الهرب من الواقع؛ فإما أن تحارب
الشعوب وتصمد ، او تنهار، وهي تعلك الكلمات
وتتفرج، وتسخر، وتخضع لهؤلاء الساسة الطغاة، الذين تستخدمهم الحكومات الخفية
كأدوات لتنفيذ المكائد ضد التحرر والنهضة، فيقودون البلاد نحو الهاوية بالتقسيم والتشطي
والتشرذم والتفتيت... ولهم شركاء وإطار يحميهم؛ ضمن شراكات وتبعيات سياسية. الطائفية والنزاعات الأهلية أداة عمل لتفتيت الثورة ووأد عزيمة الشعب في التحرر
وبناء الدولة.
الإنسان في العموم، يرغب في معرفة الغد؛ لكنه
يخشى معرفة الغد، ويكتفي باكتشافه بالعيش اليومي. المفكرون فقط هم الذين يبحثون في
المستقبل وفي التنبؤ، لكي يسهموا في صناعة الغد وقيادته. قوة الشعب
من اهم مكونات التنبؤ السياسي في مصير الأمم.
قوة الشعب، تصنع المستقبل، عندما لا
قهر لها ؛ لكن قوّة الشعب تظل ضجيجا، إن لم يكن لها مرجعية
وقيادة وقوة راسخة عاملة على الأرض. فالوطن ليس عالما افتراضيا. ومآسيه لا تحل افتراضيا
ونظريّا. زخم الثورة والثوار يقلب الأوضاع؛
لكنّ المرجعية ضرورية؛ فهي الحاضن للثورة،
وهي الواقع الذي يمد الثورة بالديمومة والنجاح والسيادة.
عندما احتلت أمريكا العراق ولم تتمكن من البقاء
فيه، خرجت ودعمت عصابات إيران وحكوماتها لمنع قيامة الشعب العراقي وبناء دولته . وإسرائيل
تقتل وتبطش لكي تحكم السيطرة على غزة التي تأبى الركوع. بشار وأعوانه فعلوا كل شيء
لقتل الثورة السورية والشعب السوري الذي يقاتل بضراوة؛ فجاء اختراع أكذوبة الإرهاب، وعصابات داعش، لمحاربة قوة الشعب والثورة ونهضة الشعب في كل بقعة، ولسد
الطريق على الناهضين، بإشاعة الإحباط وضرب حواضن الثورة وقلبها عبر الإرهاب؛ لكنّ الأسلحة
التقليديّة، والاستراتيجيات القديمة، لم تعد تنفع
في ترويض الشعب وتقزيم الثورة، حتى
عملية صبغ نهضة الشعوب بالإرهاب الطائفي الإسلامي لن تقوى على الصمود طويلا؛ لأنها
دخيلة ومرتبطة بمزاج مؤقت. قد تنجح عند الفئات صاحبة المصالح العابرة للاقليات وصاحبة المشاريع
التي تحارب الإسلام والعروبة والنهضة الوطنيّة والتحرر. الخارطة السياسية على الأرض
تختلف عن التنظير والفرجة وعن الظاهر في الخطاب،
وبالتالي التصورات السطحية لن تنتج حلا جذريا.
هي حرب استزاف بين معادي الثورة وسارقيها وبين
الثوار ومؤيدي الثورة . والمشهد مرشح لمزيد من الدموية. .ليس الشعب مجرد فئات عابرة
في التاريخ. الشعب مشروع لبناء امة ووطن وحضارة. والبناء في ظل الطغيان، يكون بالدماء
والتضحيات. المشوار طويل جدا والصبر زاده....لا مفر من القتال والنضال ودحر الطغاة
وإنجاز الاستقلال. فحجم التضحيات يقابل حجم الآمال والطموحات والأحلام والإنجازات.
الثورة جاءتنا قدرا، وصارت واقعا يأبى التّزوير.
والتجاهل، لكنْ، من يتقمّص صورة الثورة بمرجعيات الدين والعلمانية والليبرالية والدول الكبرى، هو المدعي والمضلل والكذاب. الثورة لا قناع
له، سافرة قوية بطاقة التغيير، ولا مغير لقوانينها وسيره. قد يتأحر الزمن بسبب الظرف؛ لكنه قانون في صيرورة
الإنجاز بين المتعاكسات والتيارات المضادة. وما يجب أن يعمل عليه المؤمنون بالثورة
هو صناعة المرجعية. المرجعية بأبعادها العاطفية والفكرية والأخلاقية والشعبيّة. المرجعية هي القيمة التي تمنح الحقيقة حقا وشرعية
وقوة وبقاء.
د. سماح هدايا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق