المقدمة
السلام عليكم والرحمة لشهداء ثورات الربيع
العربي عامة، وأمها الثورة السورية خاصة، وشكراً لاستضافتي على قناة حقوقية هي
قناة (العصر) الكريمة وعلى منبرها الحر برنامج (مسارات).
مهمة
الثورة كما أراها هو إقتلاع النظام الديكتاتوري من جذوره وتخليص المجتمع منه ومن
رجالاته، في حين أن الاصلاح هو من مهمة الأجيال القادمة التي تقوم به وهي محررة من
قيود العبودية. إذا اتفقنا على هذا المبدأ في تقييم نجاحات واخفاقات الثورات
العربية فيمكننا القول أن الثورة الليبية تأتي في المرتبة الأولى وتليها التونسية،
في حين أن السورية ماتزال على الطريق. أما الثورة اليمنية فقد تم احتوائها بما تم
تسميته بالحل السياسي، وأما المصرية فتعرضت للأسف لثورة مضادة كما كان متوقعاً.
دعني أقول أولاً أن وصول أنظمة ديمقراطية حقيقية إلى الدول العربية التي تعوم على
بحار من الثروات الطبيعية وتتربع في موقع جغرافي فريد في قلب العالم هو قولاً
واحداً ليس في مصلحة الدول العظمى التي تهيمن على بلدان العالم الثالث بما فيها بلداننا.
والسبب وفي غاية البساطة هو أن تعامل تلك الدول العظمى مع الديكتاتور كحاكم فرد
أسهل عليها بكثير من تعاملها مع نظام برلماني يقدم مصلحة بلده على أي مصلحة ويعرف
أن هناك من سيحاسبه. ومن جهتي فأرى أن (الديكتاتور) في أي بلد يتبع دولة
عظمى بعينها، غربية أو شرقية، تدعمه مادياً وتحميه أمنياً وعسكرياً مقابل تنفيذ
تعليماتها وتأمين مصالحها، وبالتالي فهو ليس أكثر من (وكيل عام) لها على
بلده، تغيره أو تتخلص منه لأسباب قد تكون معروفة أو مجهولة يتكفل المستقبل بكشف
أسرارها.
ولهذا نرى أن هناك محاولات محمومة لاعادة
الأمور إلى ماكانت عليه في دول الربيع العربي كي لاتنتقل عدوى الثورات إلى جاراتها،
حيث نجحت تلك المحاولات في مصر وماتزال جارية في ليبيا وتونس. أما في سورية، فأنا
أدعوك لقراءة المبدأ الذي تتبناه الدول التي تسمي نفسها بمجموعة أصدقاء الشعب
السوري مثل أمريكا وفرنسا وانكلترا، جنباً إلى جنب مع الدول الداعمة علناً لنظام
الأسد مثل إيران وروسيا والصين. وهو المبدأ الذي يقول (ليس هناك حل عسكري لما
يجري في سورية، بل حل سياسي فقط)، أما ترجمته على أرض الواقع كما أثبتته
الأحداث بعد أكثر من ثلاث سنوات فهو التالي (لا لانتصار الثورة عسكرياً على
نظام الأسد، أي لابديل عن بقاء النظام بهيكلته العسكرية الأمنية الحالية وهذا يعني
بدوره بقاء القرار السياسي محصوراً بيد النخبة العلوية التي تسيطر على هذا الهيكل).
الخلاف بين الغرب وبين الدول الداعمة للنظام وعلى رأسها إيران هو أن الغرب يرى أن
تطبيق هذا الحل سيكون صعباً ببقاء (بشار الأسد) وطاقمه على رأس الحكم، كونه أحرق
سفنه مع الشعب السوري بغالبية فئاته. وبالتالي فاستبداله بطاقم عسكري أمني، وبالتالي
علوي ولكن غير متورط بجرائم حرب، هو سيناريو أكثر واقعية، أي مايشبه السيناريو
اليمني، وأنا واثق من أن هذا الغرب سيكون مستعداً للتعامل مع الأسد نفسه فيما
إذا حسم الأخير المعركة لصالحه. في حين أن إيران، كونها تحولت إلى دولة احتلال
لسورية، فهي لاتثق بأي سيناريو لايحوي الأسد، لأنها هي أيضاً أحرقت سفنها مع الشعب
السوري ولاتثق ولاحتى بنظام علوي آخر لأن يُبقي على هيمنتها المطلقة على البلد.
ولهذا كنت قد أشرت في مقال سابق إلى أن عبارة (الأسد أو نحرق البلد) التي
يكتبها جنود النظام على جدران البلدات بعد تدميرها ليست مقولة هذا النظام وإنما من
صنعه وأوصله إلى الحكم في سيتينيات القرن الماضي، وهو الغرب بطبيعة الحال. وحتى
لايحزن السوريون، فهذا هو أيضاً الحال في بقية الدول العربية والأجنبية التي كانت
تحت الاحتلال الأجنبي.
لماذا وكيف بدأت الثورة السورية
لمن يدافع عن النظام ويصفه بأنه عروبي وقومي
أقول بأنه لوكان كذلك لما ساند إيران، العدو التاريخي للعرب، في حربها مع العراق، بعكس
مافعلته بقية الدول العربية، ولمن يصنفه بأنه علماني أقول لو كان كذلك لما ميز
طائفته على باقي شرائح الشعب عموماً واضطهد الأغلبية السنية خصوصاً. أما من يتبجح
بأنه حامل راية البعث وشعاراته أقول بأنه هو من اغتال ولاحق مؤسسي الحزب واتهمهم
بالخيانة بعد أن انتهى دورهم بايصاله بقصد أو بدون قصد إلى الحكم، ولمن يقول بأنه
وطني أقول بأنه لو كان كذلك لما ارتكب بحق الشعب أسوأ المجازر في التاريخ الحديث.
كانت
الثورة السورية آخر من انضمت لأخواتها بقية ثورات الربيع العربي. وهي الثورات التي
بدأت في تونس في ديسيمبر 2010 بحرق (محمد البوعزيزي) نفسه بعد مصادرة عربته
وإهانته، ثم انتقلت عدواها إلى مصر في الشهر التالي، جانيوري 2011 وإلى اليمن
فليبيا في فيبروري وأخيراً إلى سورية في آذار، مارس.
كانت ثورتا تونس ومصر قد انتهيتا بهرب رئيس
الأولى وتنحي رئيس الثانية بعد عدة أيام فقط من اندلاع الثورة الشعبية فيهما،
وثورتا اليمن وليبيا قد بدأتا للتو. أطفال مدرسة ابتدائية لايتجاوز أعمارهم 12
عاماً في مدينة درعا جنوب سورية تأثروا بأحداث ثورات الربيع العربي فكتبوا
على جدران مدرستهم عبارات مثل (ارحل يابشار) (يسقط بشار الأسد) و(جاييك الدور
يادكتور). قبضت المخابرات على أطفال المدرسة ونقلتهم إلى (فرع فلسطين) السئ
الصيت في دمشق وتم تعذيبهم وتقليع أظافرهم. شكل وجهاء درعا وفداً اجتمع مع رئيس
الأمن السياسي في مدينتهم، عاطف نجيب، ابن خالة بشار الأسد، وطالبوا بالافراج عن
أبنائهم، ونزع رئيس الوفد من على رأسه (الكوفية والعقال العربيان)، وهما رمز
للكرامة عند العشائر العربية، ووضعهما على الطاولة في حركة رمزية تناشد الشرف
والمروءة عند رئيس المخابرات المذكور للافراج عن أبنائهم. ولكن الرجل الذي لايعرف
معنى الشرف ولاالمروءة لم يقدر معنى تلك الحركة التي قام بها وجهاء المدينة، وهم
من العشائر العربية الأصيلة التي تعيش لتفاخر بشرفها وكرامتها. فهو لم يرفض طلبهم
فقط بل وأهانهم برمي (الكوفية والعقال) على الأرض وقال لهم: انسوا هؤلاء الأولاد
واذهبوا لانجاب أولاد غيرهم، وإذا احتجتم مساعدتنا في ذلك فأرسلوا نسائكم لنا. هذا
التصرف الأرعن كان بمثابة الدعوة التي لبتها الثورة في اليوم التالي.
المراحل الثلاثة للثورة السورية
اسمح لي هنا أن أستعرض سريعاً المراحل
الرئيسية الثلاثة التي مرت بها هذه الثورة منذ انطلاقتها في 15 آذار 2011 وحتى
اليوم.
المرحلة الأولى: المرحلة السلمية،
وقد استمرت لحوالي الستة أشهر حتى خريف عام 2011 وكانت بمجملها مقتصرة على
المظاهرات والاضرابات والهتافات بالحرية وبأن (الشعب السوري مابينذل). قابل
النظام المظاهرات السلمية بوحشية غير مسبوقة قتل خلالها الآلاف من المدنيين العزل
في محاولة منه لوأد الثورة وإعادة المحتجين إلى بيوتهم. منعت إسرائيل حلفائها
الغربيين من التدخل المباشر ضد نظام الأسد، في حين دعمته روسيا والصين بامدادات
السلاح وبحمايته دولياً باستعمال الفيتو في مجلس الأمن مرتين، ودعمته إيران
بمستشارين عسكريين وأيضاً بالسلاح. أعتقد بأن الثورة أخفقت حين انتظرت ستة أشهر
كاملة لحملها السلاح، والتي أرى أنها ماكانت إلا هدراً للوقت والأرواح التي كان
يمكن استغلالها في محاربة النظام الذي لايفهم أصلاً معنى السلمية. وقد برزت في هذه
المرحلة حوادث كشفت الوجه السادي والمتوحش للنظام مثل قبضه على الطفلين حمزة
الخطيب وتامر الشرعي في ريف درعا وتعذيبهما حتى الموت والتمثيل بهما قبل
تسليمهما لعائليتهما، وكذلك قبضه على الفتاة (زينب الحصني) ثم تسليم أهلها
أشلاء جثة فتاة على أنها ابنتهم، وأخيراً وليس آخراً قبضه على مطرب الثورة في حماة
(ابراهيم القاشوش) صاحب أغنية (يللا ارحل يابشار) وذبحة واقتلاع
حنجرته ورميه في نهر العاصي. برزت كل هذه الحوادث لتؤكد أن هذا النظام غير قابل
للتفاوض ولاللاصلاح، وأن حمل السلاح ضده هو الطريق الأمثل والأنجع للتعامل معه.
يعتقد الكثيرون أن النظام أحرق سفنه في
الشعب السوري في هذه المرحلة من الثورة، ومن جهتي فأعتقد بأنه فعل ذلك على أيام
الأسد الأب حين ارتكب مجزرة حماة الشهيرة عام 1982 والتي راح ضحيتها مايقرب
من خمسين ألف مدني في حوالي الاسبوعين، دون تفريق بين نساء وأطفال وشيوخ. وهي
المجزرة التي تعتبر الأسوأ في النصف الثاني من القرن العشرين وعلى مستوى العالم،
ومن الواضح أن المجتمع الدولي تجاهلها واستمر بالتعامل مع النظام كونه بقي مستمراً
بتقديم الخدمات المطلوبة منه. وبالمناسبة فان مجزرة حماة قد تم ارتكابها
بعد أن سلم أفراد الطليعة المقاتلة المنشقة عن الاخوان المسلمين أنفسهم وأسلحتهم
للنظام، وهذا هو سبب عدم ثقة أحد بالعروض التي يقدمها النظام اليوم للمصالحة. وكنت
قذ كتبت في هذه المجزرة قصيدة قلت في مطلعها:
لا لَنْ
نُسامِحْ ولَنْ نَنسى
قَتلتُمْ
في حَماةَ خَمسينَ
ألفا
وغَّيبتُمْ
أضعافَهُمْ في السُجونِ
وأرسَلتُمْ
أضعافَهُمْ إلى المنفى
المرحلة الثانية: مرحلة حمل
السلاح، وقد استمرت لسنة ونصف من نهاية 2011 حتى بداية عام 2013 تقريباً. وقد
حمل السوريون السلاح بسبب الوحشية التي قابل بها النظام مظاهراتهم السلمية في
المرحلة الأولى، كما وانشق المئات ثم الآلاف من جيش النظام ليشكل منه المقدم (حسين
الهرموش) نواة الجيش السوري الحر ثم ليتابع قيادته العقيد (رياض الأسعد) بعد خطف
الهرموش وتسليمه للنظام في عملية خيانة قامت بها عناصر أمنية تركية علوية قامت
الدولة التركية فيما بعد باعتقالهم وتقديمهم للعدالة. استمرت إسرائيل في هذه المرحلة على موقفها
المعارض للتدخل الغربي العسكري ضد النظام، في حين زادت روسيا من امدادات السلاح،
كما زادت إيران من تلك الامدادات وكذلك من أعداد المستشارين العسكريين. ارتكب
النظام في تلك المرحلة العديد من المجازر بالسلاح الأبيض ضد المدنيين مثل مجازر
داريا وحلفايا والحولة، وكذلك باطلاق صواريخ السكود البعيدة المدى لقصف المدن
الآهلة بالسكان بعد خروجه منها، ولكن بالرغم من كل ذلك، فقد أحرز الجيش الحر
والكتائب المقاتلة التي انضمت إليه من صفوف المدنيين، أحرزت انتصارات على كافة
الجبهات بحيث سيطر على حوالي ثلاثة أرباع سورية بما فيها المعابر الحدودية مع
تركيا والعراق الأردن، وطرق أبواب دمشق واستولى على طريق المطار الدولي، فانكفأ
النظام ليتمترس داخل المدن الرئيسية فحسب. في نهاية هذه المرحلة كان النظام قد هزم
بالكامل وبات إعلان سقوطه الرسمي متوقعاً في أي لحظة، وبالتالي تعتبر المرحلة
الأكثر نجاحاً والتي أوصلت الثورة إلى أقرب نقطة من الحسم العسكري على الطريقة
الليبية.
المرحلة الثالثة: مرحلة التدخل
الايراني المباشر، وهي مرحلة بدأت منذ حوالي العام وماتزال مستمرة حتى اليوم. فبعد
أن فقدت إيران الأمل من قدرة جيش النظام على الصمود في وجه الثورة، قررت الكشف عن أوراقها
وأهدافها بالسيطرة على سورية عسكرياً وليس سياسياً فقط. فبدأت بخطة التجييش الطائفي
لتحرف مسار الثورة من ثورة حرية وكرامة إلى حرب بين الأغلبية السنية من جهة والأقلية
العلوية وحليفتها الشيعية من جهة ثانية. فرتبت تهريب أو الافراج عن المئات من
معتقلي تنظيم القاعدة في سورية والعراق ومولتهم لتشكيل تنظيم جهادي تكفيري باسم
(دولة الاسلام في العراق والشام، أو داعش) وجعلتهم يعلنون محاربتهم لنظام الأسد كي
يتمكنوا من التغلغل في صفوف الثورة. وسرعان ماكشف التنظيم عن وجهه الحقيقي حين بدأ
بمهاجمة فصائل الجيش الحر واحتلال المناطق التي كان قد حررها من النظام. وقد ساعدت
روسيا أيضاً في هذا المجال حين سهلت وصول مقاتلين شيشانيين سنة شكلوا كتائباً
سلفية وادعوا بأنهم إنما أتوا للجهاد ضد نظام الأسد، في حين أنهم لعبوا نفس الدور
الذي لعبته (داعش) وغدروا بالثورة السورية وشوهوا صورتها أمام الداخل والخارج
معاً. قامت إيران بعد ذلك وبناء عليه بترتيب إرسال الآلاف من المقاتلين الشيعة من
الحرس الثوري الايراني وحزب الله اللبناني والميليشيات الشيعية العراقية واليمنية،
وأيضاً متطوعين شيعة من أفغانستان وباكستان وأذربيجان وافريقية، كلهم جيشتهم تحت
شعارات طائفية مثل (يالثارات الحسين) و(لن تسبى زينب مرتين) و(لبيك يازينب).
مستغلة وجود عدة مزارات يرتادها الشيعة في دمشق وضواحيها كمقام السيدة زينب ومقام
السيدة رقية وغيرهما، ومستغلة كذلك وجود عدة قرى سورية مثل نبل والزهراء في ريف
حلب وغيرها على الحدود اللبنانية تحوي على سكان شيعة ادعت أنهم مهددون من قبل
المقاتلين التكفيريين السنة من أمثال (داعش).
استردت القوات المشتركة الشيعية أولاً ريف
دمشق باقناع النظام استعمال أسلحة كيماوية في مجزرة الغوطة، كما شنت هجوماً شاملاً
في منطقة القلمون المحاذية للحدود اللبنانية، فاحتلت بلدات القصير ويبرود وغيرها
وتمكنت من دخول حمص القديمة باتفاقية سمحت للثوار المحاصرين فيها بالانسحاب وتسليمها
سلمياً. خرج عدة مسؤولين إيرانيين ومن حزب الله اللبناني مؤخراً بتصريحات أغضبت
نظام الأسد مفادها أن النظام كان سينهار بالكامل لولا أن أتت إيران وحلفائها
لنجدته في اللحظة الأخيرة. بالرغم من الوقاحة السياسية لتلك التصريحات، إلا أنها
غنية بالحقيقة المرة والتي مفادها أن سورية باتت تحت الاحتلال والوصاية الايرانية.
ومن جهة ثانية تمكنت (داعش) حليفة وصنيعة إيران والعراق والنظام، من احتلال الرقة
ومناطق في ريف حلب وادلب ودير الزور بالتعاون الوثيق مع حلفائها. ولكن ما أمر من
هذا هو استمرار من يسمون أنفسهم بأصدقاء الشعب السوري، بتجاهل التدخل الايراني
العلني من جهة، وباستمرار تجاهلهم لحقيقة (داعش) وأمثالها وحسابها على الثورة،
وبالتالي التحجج بها للامتناع عن تزويد الجيش الحر بأسلحة مضادة للطيران كي (لاتقع
في اليد الخطأ) حسب تعبيرهم.
أين أخفقت الثورة السورية؟
أخفقت
الثورة السورية في تقدير حجم وأهمية ثلاثة عوامل هي التي حمت نظام الأسد وجعلته
يستمر حتى اليوم. وهي عوامل كانت معروفة في الماضي للقاصي قبل الداني، ولكن لم
يقدر أحد بعد قيام الثورة مدى تأثيرها وصلابتها في دعم النظام: العامل الاسرائيلي
والايراني والروسي.
العامل الأول: العامل الاسرائيلي،
وهو برأي الشخصي أهمها على الاطلاق
الكل بات يعلم أن (حافظ الأسد) وصل إلى
الحكم واستمر فيه حتى موته بعد ثلاثين سنة لأنه سلم الجولان لاسرائيل في حرب
حزيران 1967 حين كان وزيراً للدفاع وأمر الجيش بالانسحاب الكيفي من دون قتال ومن
دون أي سبب عسكري يوجب ذلك. وهو ربما وزير الدفاع الوحيد في التاريخ الذي يخسر
حرب فيصبح رئيس جمهورية وللأبد، وبالتالي فمن الواضح أن تمكينه من الوصول إلى هذا
المنصب كان بمثابة المكافأة. قد يحاول البعض الدفاع عنه بذكر حرب تشرين عام 1973
وأنه حاول على الأقل استعادة الجولان إلا أنه لم يفلح. أرد على هؤلاء أن عليهم العودة
لمذكرات رئيس الأركان المصري حينها (سعد الدين الشاذلي)، وهو من وضع خطة عبور
القناة ونفذها، ولكنه وبعد أن اطلع على خفايا تلك الحرب، عاد ووصفها في مذكراته
بالحرب المسرحية أو التحريكية، وليس التحريرية كما ادعى كل من السادات والأسد
حينها. كما أدعو هؤلاء المدافعين للعودة لمذكرات رئيسة وزراء إسرائيل حينها (غولدا
مائير) والتي كتبتها بعد اعتزالها الحياة السياسية، وقالت فيها أن الطريقة التي
قاتل فيها الجيش السوري في الأيام الأولى من الحرب لم تكن طريقة قتال جيش يهدف للاحتفاظ
بالأراضي التي يسيطر عليها، بل كان فيها من (رفع العتب) أو (تسجيل موقف) أو (تلميع
صورة) أكثر بكثير مما فيها من العمليات العسكرية. وبالفعل فقد أتت الأوامر للجيش بالانسحاب
بعد ثلاثة أيام فقط من بداية هجومه المسرحي حتى وصل إلى منطقة (سعسع) الواقعة خلف خطوط
ماقبل الحرب وعلى بعد 40كم من دمشق، ولكن وبالرغم من هزيمته المهينة، فهو مايزال يطبل
ويزمر بهذه الحرب حتى اليوم.
منذ بداية الثورة السورية أتانا التصريح
الشهير لصاحبه (رامي مخلوف)، لص لصوص النظام وابن خال (بشار الأسد)، حين صرح في
مقابلة صحفية بأنه (من المستحيل أن يكون هناك استقرار في إسرائيل إذا لم يكن
هناك استقرار في سورية) في إشارة واضحة منه لاتقبل أي لبس أن نظامه هو من يضمن
أمن وأمان إسرائيل، مما دفع باعلام النظام لتبرئة ذمته والإعلان عدم مسؤوليته عن
تلك التصريحات وأنها تعبر عن رأي قائلها فحسب. كما وتكررت بعد ذلك التصريحات
الاسرائيلية الرسمية وغير الرسمية التي تؤكد وبصراحة أن إسرائيل لاترغب في تغيير
نظام الأسد لأنه، حسب توصيفها، باتت تعلم كيف تتعامل معه وأنه أفضل لها من غيره
على مبدأ (الشيطان الذي تعرفه خير من الشيطان الذي لاتعرفه). ولكن حقيقة موقف
إسرائيل هو شئ آخر، ولا أعتقد بأنها تنظر إليه كشيطان، وإنما كملاك. فهذا النظام هو
من سلمها الجولان، مصدر مياه الشرب الرئيسي لها، عام 1967 دون معركة كما ذكرت
وحافظ على هدوءه لأربعين عاماً، وهو النظام الذي ساعدها على التخلص من منظمة التحرير
الفلسطينية وإخراجها من لبنان إلى تونس عام 1982، فليس أقل من أن تدعمه في محنته
الحالية وتتمسك به وتمنع أي تدخل من حلفائها الغربيين والشرقيين لازالته. وقد أعلمت
الحكومة الاسرائيلية موقفها هذا أكثر من مرة للادارة الأمريكية والدول الأوربية،
ومن المسلم به أن أي تدخل أجنبي في المنطقة لايتم إلا بالتنسيق مع إسرائيل
وبموافقتها. وقد قلت في إحدى نثرياتي
بَكَتْ علينا
أُمَمُ الأرضِ واسـتَفاضَتْ
ولو صَبَّتْ
دُموعَها في البِحارِ
لفاضَتْ
...
ولكنْ هِيَ
إسرائيلُ أصلُ بَلوانا
فلَولاها
ماابتلينا بالعصابةِ التي
للجولانِ باعَتْ
جَعَلتْ أمنَ
وأمانَ إسرائيلَ غايتَها
وهِيَ لهذا
للشَرقِ والغَربِ قَد
راقَتْ
العامل الثاني: العامل الايراني، وهو
يأتي برأي في المرتبة الثانية من حيث الأهمية
أعلن (الخميني) منذ اليوم الأول لاستيلائه
على الحكم في إيران نيته (تصدير الثورة)، وهذا يعني إكمال المشروع الذي بدأه
الصفويون في القرن السادس عشر باستعادة أملاك الامبرطورية الفارسية والتي وصل
نفوذها في حينه إلى مصر غرباً. ولكن استعادة أملاك فارس هذه المرة ليس تحت
راية النار المقدسة، وإنما تحت نفس راية (يالثارات ياحسين) التي استعملها الصفويون
قبله، أي بواسطة الخطاب الطائفي. وهناك مثلٌ شعبي يقول (المال الداشر، بيعلم
الحرامي على السرقة)، والحرامي في هذه الحالة هي إيران والمال الداشر هو الدول
العربية التي ابتليت بحكام أولوياتهم هي كراسيهم ولاأعرف إذا للوطن عندهم أي
أهمية. ولكن عندما يسرق الوطن، سيسقط كرسي الحاكم أيضاً، وما حدث للخليفة
(المستعصم بالله) آخر خليفة عباسي، حين أتاه (هولاكو) في القرن الثالث عشر لأكبر
دليل على ذلك. بدأت ايران مشروعها هذا من لبنان حين خلقت (حزب الله) عام 1982
وجعلته دولة داخل الدولة إلى أن تمكن من مصادرة القرار السياسي والعسكري معاً عام
2005 بعد إجبار الأسد على سحب جيشه. من جهتي يمكنني رؤية الدور الاسرائيلي في خلق (حزب
الله)، فاسرائيل بعد اجتياحها لبنان عام 1982 وإخراجها لمنظمة التحرير منها، انسحبت
مع احتفاظها بالجنوب، بالرغم من أنه لم يعد هناك أي تهديد حقيقي لها، وهذا
مامهد الطريق لظهور (حزب الله) كحزب يدعي المقاومة ولكن أثبتت الأحداث المستقبلية
أنه في الواقع كان يعمل على إضافة لبنان لأملاك الولي الفقيه في طهران. وقد
أكمل الطرفان، إسرائيل و(حزب الله)، هذه المسرحية السمجة حين انسحبت إسرائيل من
الجنوب عام 2000 بلا أي سبب، تماماً كما احتلته، لتهدي الحزب انتصاراً مجانياً
يكرس هيمنته على القرار السياسي اللبناني، والكل يعرف أن الاسرائيليين لايمنحون
شيئاً بالمجان.
وللعلم، فقد كانت لسورية اليد الطولى والأمر
والنهي في لبنان منذ احتلالها له عام 1976 تحت غطاء (قوات الردع العربية). حيث أسندت
إليها الجامعة العربية مهمة إيقاف الحرب الأهلية اللبنانية والتي أشعلت أصلاً من
أجل هذه الغاية وليتم إخراج المقاومة الفلسطينية نهائياً من هناك، وهذا ماتم عام
1982. وقد كانت إيران الخميني حينها غير راضية عن ولاء (حركة أمل) اللبنانية
الشيعية لها والتي أسسها الامام (موسى الصدر) عام 1975 وترأسها (نبيه بري) بعد الاختفاء
الغامض للأول خلال زيارة له إلى ليبيا عام 1978. وسبب عدم رضى إيران عن (أمل) في
حينه أنها كانت ترى أن ولاء هذه الحركة للبنان كان يأتي في الدرجة الأولى، في حين ولائها
لايران في الدرجة الثانية. ولذلك استغلت إيران احتفاظ اسرائيل بالجنوب لتبرير
تأسيسها (حزب الله) ليكون بمثابة يدها الضاربة هناك والذي يأتي ولائه لها في
الدرجة الأولى.
لم تكن تخفى عن (حافظ الأسد) العداوة
التاريخية والدموية بين طائفته (العلوية-النصيرية) وبين الشيعة عموماً، فكان
تحالفه مع إيران الخمينية هو (تحالف الضرورة) للاستقواء بها في خضم بحر من الدول
العربية والاسلامية السنية التي تحيط به، كما ونظرت إيران الشيعية إلى هذا التحالف من نفس
المنظار. إلا أن الأسد كان دائماً يخشى تمدد النفوذ الايراني على حسابه، وقد بدأ
ذلك فعلاً في لبنان حين أسست إيران (حزب الله) عام 1982 والذي ماكان يتلقى الأوامر
إلا من طهران ودعمته بالتسليح والتدريب بواسطة قوات الحرس الثوري. عادى نظام الأسد
هذا الحزب وعلناً في حينه وتحالف مع (حركة أمل) من أجل القضاء عليه في مهده،
وتطورت الأمور بين الحركة والحزب إلى معارك مسلحة عام 1990 سميت (حرب إقليم
التفاح) هي في الواقع كانت حرباً بالوكالة بين الحليفين اللدودين السوري والايراني
على النفوذ في لبنان. ولكن لما كتب الانتصار فيها لحزب الله، لم يجد الأسد بداً من
التسليم بالأمر الواقع وتقاسم النفوذ هناك مع إيران، فكانت هذه أول خطوة لإيران
للسيطرة الكاملة على لبنان. ثم أتت الحادثة التي أضعفت نفوذ الأسد أكثر هناك
وهي مقتل ابنه (باسل) في حادث سيارة غامض في دمشق عام 1994. وهو الذي كان
مفوضاً بالملف اللبناني بالوكالة عن أبيه وكان يتبع سياستة الحذرة بالتعامل مع
الحليف الايراني، كما وكان الوريث الأول للحكم من بعد أبيه. كل هذا يدفع إلى البحث
عن دور إيران في (إزاحته) عن طريقها وتمهيد الطريق لأخيه (بشار)، الغير كفؤ
لأي شئ أصلاً، ليستلم الحكم مستقبلاً مما يسهل لايران بسط نفوذها على سورية نفسها
وليس لبنان فقط.
الخطوة الأخيرة التي أنهت النفوذ السوري
بالكامل على الأرض اللبنانية كانت اغتيال رئيس الوزراء اللبناني (رفيق الحريري)
عام 2005، وهو الرجل الذي كان يعمل على الساحة الدولية لتخليص بلده من الاحتلال
السوري باخراج جيشه ومن النفوذ الايراني بتسليم (حزب الله) لسلاحه والانخراط في
العملية السياسية. وبالتالي فمن الطبيعي أن تشير كافة المعطيات والأدلة إلى تورط
نظام الأسد وإيران معاً في تلك الجريمة والتي والتي انعكست نقمة على الأول وأجبرته
على سحب جيشه بعد احتلال دام 25 عاماً، ونعمة على الثانية التي أصبح لبنان لها دون
منافس. ومن هنا يذهب التحليل المنطقي للأمور بأن الجهة الأكثر استفادة من عملية
الاغتيال هي إيران التي أحكمت بذلك سيطرتها على لبنان بالكامل. ويبدو أنها
أقنعت الأسد الابن، الذي لايرى لأبعد من أنفه، بالموافقة على العملية وطمأنته بأن
إسرائيل ستؤمن له الغطاء الدولي كما جرت العادة. وبالفعل فقد كانت إسرائيل أحدى
الدول التي صوتت ضد سحب جيش الأسد من لبنان، ولكن وبما أنها لاتملك حق الفيتو، فلم
تتمكن من إنقاذه، خاصة وأنه وباغتيال الحريري تجاوز أحد الخطوط الحمراء التي وضعت
أصلاً كشرط لاحتلال أبيه لهذا البلد عام 1976.
كانت إيران قد تمكنت قبل ذلك من إحكام
قبضتها على العراق بعد غزو الجيش الأمريكي له عام 2003 ثم انسحابه وتسليمه لها على
طبق من ذهب عام 2011. وبعدم عثور الأمريكان على أسلحة الدمار الشامل التي برروا
غزوهم بها، فقد بدا غزوهم ثم انسحابهم وكأنهما من أجل تسليم البلد لولاية الفقيه.
ومن جهة ثانية فيرى الجميع كيف أن إيران تحاول السيطرة على اليمن من خلال دعم مقاتلي
الحوثيين الشيعة في الشمال واستغلال عمليات مقاتلي القاعدة في الجنوب، وكذلك على
البحرين من خلال نشر الفوضى بواسطة المظاهرات الشيعية التي ظاهرها حق وباطنها باطل.
وهي أيضاً تعمل منذ فترة على الدول الافريقية، وخاصة تلك المجاورة للدول العربية،
عن طريق الدعوة للتشيع وكذلك تأسيس جماعات مسلحة من الطبقات الفقيرة لاستخدامها
لابتزاز دول المنطقة. لكل هذا كنت قد كتبت العديد من النثريات حول هذا الموضوع قلت
في مطلع إحداها مستغلاً التشابه بالأحرف بين كلمتي إيران والشيطان:
نِظامُ
إيرانْ وماأدراكَ مانِظامُ
إيرانْ؟
عِصابةٌ
اشتقَّتْ اسمَها مِنَ
الشَيطانْ
إنْ
تجسَّدَ الغدرُ تجسَّدَ
بِهمْ
وإنْ ضاعَ الحِقدُ
وجدتَّهُ في طَهرانْ
أينما
ذهبوا قسَّموا العربَ
عربينْ
في
العِراقِ والبَحرينْ واليَمنِ
ولُبنانْ
العامل الثالث: العامل الروسي
بعد فقدانهم لحليفهم الليبي، قرر الروس
الاستماتة في دعم نظام الأسد، ذلك أنه آخر بلد يوفر لهم قاعدة عسكرية بحرية دائمة
على شواطئ المتوسط في طرطوس، ولاأستبعد وجود قواعد عسكرية برية لهم عندنا أيضاً.
بعد انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991، وحكم مدمن الكحول (بوريس يلتسن) حتى عام
1999، ظهر رئيس المخابرات (فلاديمير بوتين) على الساحة ليصل إلى منصب رئاسة
الجمهورية وليحكم سيطرته عليه حتى تاريخه. واستمراره في الحكم حتى اليوم هو أكبر
دليل على أنه استولى عليه بالتزوير وليس عبر انتخابات حرة، وعلينا أن لاننسى أن
علاقاته مع (المافيا الروسية) التي تسيطر على قطاعي النفط والغاز معروفة للجميع.
كنظام الملالي في إيران، تسيطر على (بوتين)
فكرة إعادة أمجاد الامبرطورية التي كانت تدعى الاتحاد السوفيتي، وقبل ذلك
امبرطورية القياصرة التي ظهرت وتوسعت خلال العصور الوسطى واستمرت حتى بدايات القرن
العشرين. وقد استغل بوتين ثروة بلاده من النفط والغاز لتحديث تسليح جيوشه
وأساطيله ليعيد بلاده إلى ملاعب القوى العظمى والتي خرجت منها بانهيار الاتحاد السوفيتي.
وهو اليوم ليس له سوى حليف واحد في الوطن العربي يعتمد على سلاحه مئة بالمئة وهو
النظام السوري، ولهذا فنراه يستميت ويجازف بعلاقاته الاقتصادية والسياسية مع كثير
من الدول في سبيل بقاء هذا الحليف الذي يؤمن له آخر موطئ قدم في حوض المتوسط. وقد
أتت أزمة (أوكرانيا) مؤخراً لتزيد من الاحتقان بين روسيا والغرب ولتزيد من تمسك
الأولى بدعم نظام الأسد. وكنت قد كتبت نثرية في هذا الموضوع قلت فيها:
منذُ أنْ
أصبحَ زعماءُ الروسِ
أصدقائَنا
والشَعبُ السوريُ
على الحدينِ آكلٌ
للموسْ
...
كلُ شَئ
عندَهُمْ معروضٌ للبيعِ
هذا نظامٌ
مِنْ ضَميرِهِ مَيؤسْ
حتى إسطولُهمْ
برسمِ الايجارِ
وحتى الفيتو
مُقابِلَ الفلوسْ
ولابد هنا أيضاً من الاشارة إلى العامل الداخلي الذي دعم النظام خلال
الأربعة عقود الماضية والمتمثل بتحالف رجال المال السوريين من تجار وصناعيين وغيرهم
معه وقبولهم لرجالاته كشركاء لهم في أعمالهم وتجارتهم مقابل حمايته لهم وتسهيل
أعمالههم. وهذا ليس بغريب من أصحاب المال الذين عادة مايكون الضمير والشرف عندهم
قد مات وعلى استعداد لمشاركة الشياطين من أجل المال.
مستقبل الثورة السورية
مما سبق، نرى أن التحديات التي تواجه الثورة السورية لايستهان بها، فمن
يدعون صداقتها ودعمها يكتفون بمراقبة الأحداث وإحصاء الضحايا وإصدار بيانات
الادانة والقلق وابقاء الدعم للجيش الحر فقط بما يضمن عدم انهياره وفرض الجبهات
التي يمكنه أن يحارب عليها والجبهات التي لايمكنه أن يحارب عليها، مع الابقاء على
صمت مطلق بخصوص الدعمين الايراني والروسي للنظام على الأرض، وخاصة بعشرات آلاف
المقاتلين الشيعة الذين نقلتهم إيران من أنحاء المعمورة إلى سورية للقتال مع
النظام. ولايمكن تفسير ذلك الصمت الغربي المريب إلا بالمثل الشائع الذي يقول
(السكوت علامة الرضا) والذي يبدو أنه جزء من المشروع الذي تم التبشير به خلال
السنوات الماضية باسم (الشرق الأوسط الجديد) والذي يبدو أنه يتطلب تغيير التحالفات
السياسية الدولية في المنطقة ومايتطلب ذلك من تغيير بالهوية السكانية والمذهبية
لشعوبها.
إذا سورية هي الدولة الثالثة التي تعمل إيران إلى ابتلاعها بعد ابتلاعها
لبنان والعراق، ولديها مشروعان في مرحلة التنفيذ في كل من اليمن والبحرين. وبالتالي
فمن الواضح أن الدور قادم على الأردن ودول الجزيرة العربية ثم على مصر والسودان
وليبيا وبقية دول المغرب العربي، وأيضاً على تركيا، العدو التاريخي المشترك لكل من
إيران والغرب معاً. وهذا يفسر الخلافات الحادة التي ظهرت مؤخراً على العلن بين
السعودية وأمريكا، ولم تحصل الأولى من الثانية إلا على تطمينات كلامية لاتسمن
ولاتغني من جوع، في حين المشروع الصفوي يسير على قدم وساق وكذلك التقارب الايراني
الغربي تحت مسرحية (الملف النووي الايراني). لم يعد هناك وقت للدول العربية،
كانت من دول الربيع أو من غيرها، لأن تبقى تتفرج على المأساة السورية، لأني أرى
صور هذه المأساة ستتكرر فيها إن لم يكن هذا العام فالعام القادم أو في الأعوام
التي تليه. وكما قلت في مقال سابق، فعليها أن تحل خلافاتها السياسية فيما
بينها وأن تتصالح مع شعوبها بمنحها هامشاً أوسع من الحريات لتضمن ولائها، وهي إن
لم تفعل فإما ستأتيها الثورات تطالب بالحرية، وإما سيأتيها المد الايراني لاحتلالها.
وعليها أيضاً أن تتحالف مع الجارة القوية تركيا لأن المسألة بالنسبة لهم جميعاً هي
مسألة وجود أو عدم وجود. فاذا حصل ذلك، فان إيران ستنكفئ إلى ماوراء حدودها وسنرى
الشعب الايراني نفسه يخرج إلى الشوارع إسوة بشعوب الربيع العربي لاقصاء هذا النظام
الشمولي الذي يتستر خلف الرايات الدينية والطائفية لتحقيق أحلامه الامبرطورية.
وأنا أستغرب تماماً موقف إسرائيل مما يجري حولها، فهي إن ظنت أن قوتها
النووية ستردع أي تهديد لها، فعليها أن لاتنسى أن عدم تمتعها بعمق جغرافي وحقيقة
أنها دولة مجهرية على خريطة العالم يجعل ترسانتها النووية غير كافية لحمايتها. أما
إذا بقيت تعتمد على الأنظمة العربية الديكتاتورية لضمان أمنها وأمانها، فعليها أن
تعلم أن لكل شئ نهاية وأن الشعوب لاتبقى نائمة إلى الأبد. أما بخصوص استقوائها
بالدعم الغربي، فعليها أن لاتنسى أنها تبقى في النهاية صنيعة هذا الغرب وأداته،
وأنه سيضحي بها حين تنتهي مهمتها، والمجازر التي ارتكبها الأوربيون ضد اليهود
عبر التاريخ، وليس الألمان وحدهم، لخير دليل على ذلك. وبالتالي أرى أن عليها
التصالح مع أبناء عمومتها العرب الذين كانوا دائماً حلفاء اليهود عبر التاريخ، وبالتالي
فعليها إعطاء الشعب الفلسطيني حقه بالعودة وانشاء دولته، ثم الانضمام إلى الجهود
الرامية لوقف الزحف الايراني الذي يقوم بابتلاع دول الجوار واحدة بعد واحدة وربما
كانت هي نفسها على قائمته للمستقبل، إلا إذا كانت هي نفسها جزءاً من هذا المخطط.
أما للعلويين في سورية فأقول بأن نظام الأسد الديكتاتوري هو عدوهم الأول قبل
أن يكون عدو بقية فئات الشعب السوري، وهو الذي وضعهم في موقع أعداء هذا الشعب
ليحتمي خلفهم مما كلفهم عشرات الآلاف من أرواح أبنائهم. فهم بالتحديد، وبسبب
عقيدتهم التي عرضتهم للاضطهاد منذ نشوئها في العراق في القرن التاسع الميلادي وأيضاً
للتكفير من قبل الشيعة قبل السنة، فلا أمل لهم بالعيش بسلام إلا في ظل نظام
مدني ديمقراطي ذي تعددية سياسية يضمن حرية وممارسة الديانات بكافة مذاهبها وطقوسها
مادامت لاتعتدي على أحد، كما ويضمن انتقال السلطة سلمياً عن طريق صناديق الاقتراع
الحقيقية. من الواضح أن نظام الأسد لايحمل ولاواحدة من هذه الصفات، وأن طائفته
إذا استمرت في دعمها له، فهي معرضة للانقراض لصالح المشروع الشيعي الايراني.
حجم المأساة الانسانية السورية بالأرقام، ومن يقدم الدعم؟
تشير معظم التقديرات إلى سقوط أكثر من 200 ألف
ضحية من المدنيين العزل بنيران ومجازر النظام وحلفائه، بالاضافة لاعتقال واختفاء
أكثر من 350 ألف يعتقد بأنه تم قتلهم إما بالاعدام أو تحت التعذيب. أما بالنسبة لعدد
الجرحى ومن أصيبوا بعلة دائمة كفقدان البصر أو أحد الأطراف فيقدر بحوالي 200 ألف.
عدد النازحين خارج سورية يصل لحوالي 3.5 مليون يتوزع معظمهم في مخيمات للجوء مابين
تركيا والأردن ولبنان وكردستان العراق، وحوالي 8 مليون يتوزعون على الأراضي
السورية مابين المخيمات والمدارس وبيوت الأقارب في المناطق الخاضعة لفصائل الثورة.
من جهة النظام، فتشير الاحصائيات إلى خسارته مابين 100 ألف إلى 150 ألف، غالبيتهم
من جنوده وشبيحتة ومن الطائفة العلوية. أما بالنسبة للدمار فهناك عدة مدن رئيسية
كحمص وحلب ودرعا أصاب الدمار الكامل أحياء كثيرة منها وجانب واسع من بنيتها
التحتية، بالاضافة للمئات من الضواحي والبلدات والقرى الريفية الصغيرة التي تم
محيها من على الخارطة جراء القصف الجوي والبري، بحيث تقدر الخسائر المادية
بالمليارات. هذا بالاضافة للخسائر الاقتصادية الناتجة عن توقف عجلة الانتاج بسبب سياسة
الأرض المحروقة التي اتبعها النظام لمعاقبة المناطق الخارجة عن سيطرته والتي أدت
إلى دمار المعامل وحرق المحاصيل الزراعية، وهي السياسة التي عادة مايتبعها
الاستعمار وليس من يعتبر نفسه من أبناء الوطن.
لم تبخل معظم الدول العربية، وخاصة
الخليجية، بتقديم الدعم المادي والطبي للاجئين السوريين، وكذلك تركيا وأمريكا
والدول الأوربية، وتبقى المهمة الأصعب هي في إيصال تلك المساعدات إلى المناطق
الداخلية التي تجري حولها أعمال قتالية. كما وأن معظم دول العالم استقبلت لاجئين
سوريين وإن كان بأعداد محدودة ومنحتهم حق اللجوء السياسي أو الانساني. أما الجالية
السورية حول العالم، فلم تبخل أيضاً لابالمساعدات المادية ولا بالمعونات الغذائية
والعينية وأقول لك بأن مدينة (هيوستن) كانت سباقة في هذا المجال. فهي وحدها جمعت
وأرسلت أكثر من مليوني دولار وشحنت بحرياً العديد من الكونتينرات المعبأة بالملابس
والبطانيات والمواد الغذائية والدوائية، وسافر منها عشرات الأفراد والمجموعات،
شاركت بنفسي في واحدة منها عام 2013، متجهين خاصة إلى الحدود التركية السورية
يحملون معهم مساعدات انسانية من كافة الأنواع. وحتى كان منهم من خاطر بحياته وعبر
الحدود لايصال تلك المساعدات إلى مخيمات الداخل، وقس عليه في بقية المدن الأمريكية
والأوربية وغيرها.
إلى أين تذهب ثورات الربيع العربي؟
إن
تأخر انتصار الثورة أو انتكاسها أو تعرضها لهجوم مضاد من قبل مغامرين أو جهات
متسلقة عليها أو فلول النظام السابق لايجب أن يصيب الشعب باليأس فهذا يحصل في
الثورات. فالثورة الفرنسية (1789) التي ألغت الملكية وأعلنت قيام الجمهورية
المدنية استمرت عشر سنوات، ولكن تمكن ملك وإمبراطوران من العودة بعدها إلى الحكم،
ولم تستقر الأمور للنظام المدني إلا بعد 77 سنة. وبالتالي فعلى الشعوب العربية
الصبر وعدم اليأس، فالمستقبل للحرية والكرامة وإلا فان الثورات ستستمر. وكما سبق
وأشرت، فان ثورات الربيع العربي تتحدى أنظمة ديكتاتورية وحشية لاتعرف الرحمة
ومدعومة من قبل دول مؤثرة، إقليمية ودولية، تتعارض مصالحها مع أهداف هذه الثورات،
وهذا ماسيسبب تأخرها.
***
(يسمح بنشرها دون إذن مسبق)
بقلم: طريف يوسف آغا
كاتب وشاعر عربي سوري مغترب
عضو رابطة كتاب الثورة السورية
هيوستن / تكساس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق