إنَّ الظُّروف التي
تمرُّ بها «الحالة السُّوريَّة» تنذر بمخاطر كبيرة جدًا، سواء أكانت
على «الصَّعيد السِّياسيّ» أم على «الصَّعيد الميدانيّ»،
أمَّا «الصَّعيد الإنسانيّ» فقد بلغت مرحلةً من المأساة يعجز اللِّسانُ
عن وصفها، في ظلِّ تخاذل دوليٍّ وإقليميٍّ واضح، على الرّغم ممَّا يقدمونه من
مساعدات بين الفينة والأخرى، لا تكاد تصل إلى الحدِّ الأدنى من سدِّ العَوَز،
وتلبية الحاجات الأساسيَّة والضَّروريَّة التي تبقي أهلنا على قيد الحياة.
ولعلَّ هذا الجانب قد
جاء نتيجة طبيعيَّة للعجز الدُّوليّ سياسيًا وعسكريًّا عن دعم «الثَّورة
السُّوريَّة»، وعدم دفعها باتجاه حلٍّ سياسيٍّ أو عسكريٍّ يضع حدًا لإبادة
بشريَّة واضحة، وتدمير بلدٍ لم يبق من مقوِّماته إلا اسمه، ونخشى ألا نجد هذا
الاسم قريباً، في ظلِّ هذا العجز المتعمَّد من قبل الأطراف الفاعلة في «الأزمة
السُّوريَّة»، وتأتي في مقدِّمتها «الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة»،
بدءا من تصريحات خارجيَّتها أنَّ «أيَّام الأسد باتت معدودة»، إلى
إعلانها إيقاف المساعدات غير القتاليَّة عن «المعارضة السُّوريَّة».
إنَّ ما نراه في
المشهد الدَّاخلي من حالة الصِّراع المستمرَّة، والتي توسَّعت وتفشَّت في جميع
المناطق السُّوريَّة، بما فيها المناطق «المحرَّرة» أو «شبه
المحرَّرة»، يؤكِّد بما لا يدعُ
مجالاً للشكِّ أنَّ النِّزاع لم يعد بين «الجيش الحرّ»، الذي
لم نعد نسمع عنه إلا «إعلاميًا»، وبين «الجيش النِّظامي»،
و«ميليشيات الأسد»؛ بل أصبح نزاعًا متعدِّد الأطراف، متشعِّب
الجوانب، توجِّهُه قوَّةٌ خارجيَّة مستغلَّة قلَّة الدَّعم والموارد في قيادة هذا
الطَّرف المقاتل أو ذاك؛ لتحقيق حالة من الفوضى المستمرَّة في «الأراضي السُّوريَّة»،
وهي حالة لا شكَّ لم ولن تضع حدًا للحرب الدَّائرة، أو تحافظ في أحسن أحوالها على
الواقع الحاليّ بعد كلَّ ما وصلت إليه البلاد.
بدأت هذه الأطراف
المتنازعة والتي ظهرت وتجلَّت بوجه إسلاميٍّ في الأوساط الإعلاميَّة والدُّوليَّة،
تتناحر وتتقاتل فيما بينها، في محاولة لإظهار السَّيطرة الكاملة، والقوَّة الفاعلة
على الأرض، ومن ثمَّ إبراز الوجه السِّياسيّ الممثِّل لها بغية الوصول إلى السُّلطة
السِّياسيَّة التي يطمح كلُّ طرف أن يكون صاحبها، وأن تكون سُلْطتُه بديلة عن سُلْطة
«الأسد» في حال سقوطه المفاجئ، أو اتِّخاذ القرار الدُّولي لإنهائه،
وهو قرار من وجهة نظري قد اتُّخذ فعلاً ومنذ أشهر، لكن لم يحن وقت تنفيذه بعد. في
ظلِّ التَّنازلات التي يقدِّمُها «الأسد» لهم. إضافة إلى أنَّ ما نشهده من محاولات للتَّوحيد
بين معظم «الفصائل» العاملة لم يكن مدفوعًا برغبة حقيقيَّة لإدراك
أخطاء الفُرْقة والانفصال؛ بل من أجل تحقيق المكاسب السِّياسيَّة في إيجاد
المكوِّن الممثِّل لها؛ ليكون طرفًا محاورًا في «جنيف2».
وما القتال الذي نراه مؤخَّرًا بين «الجبهة
الإسلاميَّة» من جهة و«جبهة ثوَّار سوريا» من جهة ثانية،
وبين «جبهة النُّصرة» ومن والها من «دولة الشَّام والعراق»
وبين «الجبهات الإسلاميَّة» من جهة ثالثة، وسحب الشَّرعيَّة من «هيئة
الأركان للجيش الحرّ» من جهة رابعة، إلا دليل دامغ على سوء الأوضاع،
وانحراف البوصلة العسكريَّة عن هدفها المعلن وهو «إسقاط النِّظام»،
و«حماية المدنيِّين».
وأقول صراحة: إنَّ
بعض «الجبهات الإسلاميَّة»، لا نصيب لها من «الإسلام»
إلا اسمها فقط، يدفعها إلى ذلك البحث عن موارد الدَّعم «الخليجيَّة»
خاصَّة، و«الإسلاميَّة» عامَّة، وهو السَّبب الرَّئيسيُّ الكامن
وراء الرَّأي العام العالميّ بأنَّ «الثَّورة إسلاميَّة» بامتياز. وأشير هنا إلى أنَّ التَّكوين الاجتماعيّ لـ«لشَّعب
السُّوريّ» يلزمه بأن تكون ثورتُه إسلاميَّة بحكم الأكثريَّة الغالبة في
بنية هذا المجتمع، وليس لأنَّ الرَّأي جاء نتيجة تسمية «الجبهات» أو
«الكتائب» أو «الألوية» بمسمَّيات إسلاميَّة.
فبعض «الجبهات»
كانت ترفع «علم الثَّورة السُّوريَّة» في بداية نشأتها، في حين
نراها الآن تقتل كلَّ من يحمله بحجَّة أنَّ هذه «الرَّاية» بِدْعَة
لا أصل شرعيًا لها، وتحوَّلت من رفع شعارات «الحرِّيَّة» و«الكرامة»
إلى رفع شعارات «لا إله إلا الله»، في الوقت الذي تقتلُ فيه كلَّ من
يقول: «لا إله إلا الله» على أرض الواقع.
إنَّ اختلاف النِّزاع،
وتعدُّد الأطراف، وانحراف بوصلة العمل العسكريّ من وجهة نظري لم يأت كنتيجة طبيعيَّة
في مجمَله لما يحدث من تعارض في المواقف السِّياسيَّة، أو تنوُّع طرف الدَّعم
العسكريّ والماليّ، وإنَّما نتيجة سياسيَّة ممنهجة سعى إليها «النِّظام»
منذ اندلاع «الثَّورة السُّوريَّة»، في محاولة لإخمادها، وهي سياسةُ
اعتمدت ركنين أساسيّين يتمثَّلان في: انجرار البلد إلى «حرب أهليَّة»
في حال استمرار «الثَّورة» من جهة، ووجود «جماعات إرهابيَّة»
مدعومة خارجيًا من جهة أخرى.
وأرى أنَّ «النِّظام»
استطاع أن يصل إلى تحقيق هذه السِّياسَة من خلال ما يحدث على الأرض من اقتتال بين «الجبهات»
و«الكتائب» أنفسها، وانشغالها عن الجهة الحقيقيَّة التي يجب أن
توجِّه إليها سلاحها، إضافة إلى رغبة دوليَّة في استثمار «الحالة السُّوريَّة»
في تحقيق مكاسب دوليَّة، يأتي في مقدِّمتها «الحرب على الإرهاب، خاصَّة وأنَّ
«سوريا» حسب المؤشِّرات والتَّقديرات والتَّحليلات أصبحت تضمُّ أكثر
الفصائل إرهابًا في العالم.
وهنا لا بدَّ من طرح
السُّؤال التَّالي: هل من الممكن في ظلِّ هذه التَّحوُّلات والمتغيِّرات أن تكون «الحرب
الأهليَّة» في «سوريا» قد فتحت أبوابها فعليًّا؟ وهل أصبح
خوف «روسيا» من حدوث هذه الحرب واقعًا ملموسًا؟ وهل يكون إعلان «الولايات
المتَّحدة» وقف المساعدات عن «هيئة الأركان» دافعًا في تحقيق
ذلك؟ إذ إنَّ «الكتائب» ستبحث عن موارد أخرى للدَّعم ولن تجد أمامها
إلا عتاد جاراتها وصديقاتها؟
د. محمد عناد سليمان
15 / 12 / 2013م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق