ثلاثة خلاصات؛ لا يستطيع أي متابع
–بموضوعية- لما يجري في سورية أن يقفز فوقهن. أولهن نهاية نظام الأسد واستتباعاً حكم
البعث الأخير إلى الأبد، وثانيهن: تغير سوريا التي كنا نعرف منذ نحو أربعة عقود، ليس
فقط في الحكم وشكله، ولا في المجتمع وتركيبته، وإنما قد يصل التغيير إلى الجغرافيا
السياسية، أما ثالث هذه الخلاصات فهي القطع بمسار طويل للأزمة، لا ينتهي بسقوط الأسد،
وربما لا يتوقف عند الحدود السورية.
وللتذكير فإن أنصار الثورة السورية
ضربوا آجالاً كثيرة لـ "انتصار الثورة"، ولم تصح، كما أن أنصار النظام السوري
أوهموا أنفسهم وحاولوا إيهام غيرهم، منذ بداية الثورة وإلى اليوم أن المعركة انتهت
"على شكل نصر عسكري وسياسي لمصلحة سوريا وحلفائها وهزيمة تنكرها المعارضة المسلحة
ودولها الراعية ومن يدور في فلكها من أحزاب وقوى"، كما قالت مقدمة أخبار المنار
في 19/11/2013 على سبيل المثال لا الحصر. كلا التوقعين لم يصح، كما أنه لم يحن أوان
أي منها.
إن المتأمل –بإنصاف- في مسار الثورة
يدرك يقيناً أن بشار الأسد لم يعد قادراً على الحكم، وأنه يجهد –ومن يدعمه- في إطالة
النهاية، لكنه غير قادر على تفاديها، وإن أمس نظامه أفضل من واقعه، وإن واقعه أقل سوءاً
من مستقبله، غير أن بائعي الانتصارات الوهمية، في لبنان وسوريا، يرون في أي معركة تكتيكية
انتصاراً إستراتيجياً، وفي التقدم الميداني حسماً لمصلحتهم، حتى أنهم يذهبون –بصفاقة
أحياناً- إلى ضرب مواعيد ورسم "سيناريوهات" لتوبة أعداء النظام، دون النظر
إلى أن الحرب سجال، وأن الثورات تمر –تاريخياً- بطلعات ونزلات، لا طلعاتها تعني انتصارها،
ولا انتكاساتها تعني نهايتها، إلا أن المسار العام لأي ثورة شاملة وهو إزالة الحكم
السابق، ولو بعد سنين، هكذا هي حال الثورات الكبرى؛ والثورة السورية واحدة منها.
الحقيقة الراهنة إذاً أن نظام الأسد
انتهى، فهو يسيطر على أقل من نصف البلاد؛ عاصمته السياسية محاصرة بالثوار، وأكثر من
نصف عاصمته الاقتصادية بيد أعدائه، وقد خرجت بعض المحافظات من سيطرته كلياً، فيما أرياف
كثير منها مع الثوار، والحدود البرية من دول الجوار كلها تقريباً بيد مجموعات مسلحة
تناصب نظام الأسد العداء. والواقع أن بقاء رئيس أو مجموعة سياسية في الحكم لا يعني
وجودها الفعلي، فكم من عاجز أو غائب عن الوعي يسجل في سجل الأحياء وهو إلى الموت أقرب.
هذه هي حال نظام البعث الأخير في المنطقة، يتنفس بدعم غيره، فاقداً مع الوقت قدرته
الذاتية على أخذ القرار أو تنفيذه، وهذا هو التوصيف الواقعي لحكم آل الأسد اليوم.
ويترافق الموت الزاحف إلى نظام الأسد
مع تحول سوريا شيئاً فشيئاً إلى ساحة لتصريف نفوذ أطراف إقليمية ودولية، وإلى أتون
لقتالٍ أممي لا يُرى له نهاية، وإلى مصنع لإنتاج أحقاد وفتن وقلاقل مذهبية قابلة للتصدير
والتأثير في دول الجوار.
وتضيف انقسامات الثائرين على نظام
الأسد؛ السياسية والعسكرية، والاقتتال الجاري بين كثير من الفصائل، في سواد المشهد؛
ففي ظل هذا الواقع يبدو الحسم بعيداً، وتصورات ما بعد دفن النظام مرعبة وقاتمة ودموية،
وبناءً على هذه المعطيات ترجح الغالبية العظمى من متابعي الحدث السوري مضي زمن طويل
جداً قبل أن تعود الأوضاع للاستقرار على مشهد معين، والأخطر أن أطرافاً دولية فاعلة
(الولايات المتحدة وإسرائيل) ترى في الوضع الراهن –على قسوته- أفضل الخيارات بالنسبة
إليها، ففضلاً عن شطب دولة عربية جديدة من دائرة الصراع الإقليمي؛ فإن سوريا تحولت
محرقةً تجذب إليها ويُقتل فيها أعداء "إسرائيل" والمشروع الأمريكي في المنطقة،
أي الإسلاميين السنة والشيعة.
وإذا كان المشهد السوري الحالي ميؤوس
من انتقاله من بحر الدماء إلى شاطئ الاستقرار، فإن الخشية الحقيقية هي في انتقال الفوضى
إلى دول الجوار، لاسيما لبنان؛ لاعتبارات عديدة من بينها: سيطرة الإسلاميين على المشهد
القتالي في سوريا، وازدياد انغماس فئات لبنانية في صميم الصراع، وبروز احتمالات قوية
لتقسيم سياسي أو واقعي للجمهورية السورية على أساس مذهبي، ما يطرح بجدية علامات استفهام
حول قدرة التركيبة اللبنانية أو العراقية على الصمود أمام التداعيات السورية القوية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق