كتب المفكر الإسلامي، سيد قطب –
رحمه الله – كتيباً صغيراً، بعنوان (هذا الدين) وجعل الفصل الأول منه تحت عنوان (منهج
للبشر) ومن هذا الفصل، أخذت فكرة هذا المقال، وقديماً قالوا: بركة العلم، بنسبته
إلى أصحابه. وحتى لا يكون المرء متشبعاً بما لم يعط، فقد نهينا عن هذا أشدَّ
النهي.
وحقيقة هذه المسألة تؤكد من خلال
نقطتين:
الأولى: أن هذا المنهج الإلهي، لا
شك أنه من الله جل وعلا، وهو الموحى به لنبينا – عليه الصلاة والسلام – فهو الحق
المطلق، الذي لا مرية فيه. من هنا تجد العلماء والمفكرين، الذين كتبوا عن خصائص الإسلام،
يذكرون خصيصة (الربانية) أي أن هذا المنهج رباني المصدر، رباني الوجهة، رباني
التعاليم، رباني الكليات، رباني التفاصيل، رباني النتائج والمآلات، رباني الفقه،
رباني التصور، كيف لا يكون كذلك، وهو وحي الله تبارك وتعالى.
وشاءت إرادة الله جل وعلا، لعلل
عظيمة، وحكم جليلة، تسندها نصوص الكتاب والسنة، أن يكلف البشر بهذا المنهج
الرباني، ليتحقق واقعاً على الأرض، وهذا هو المحك، وهو الاختبار المبين، ليميز
الله الخبيث من الطيب، وتتمايز الصفوف، وتظهر ثنائيات الابتلاء، بشكل جلي، وصورة
واضحة، فيعرف العامل من الخامل، والمؤمن من المنافق، والشجاع من الجبان، والمضحي من
صاحب الأثرة، وصاحب المباديء، من المصلحي، الذي يلث وراء مصالحه ودنياه، وليس له
هم سوى ذلك، فيجازى المحسن على إحسانه، ويعاقب المسيء والمقصر والمذنب، على ذنبه
وتقصيره.
يقول سيد في الكتاب آنف الذكر ص 6:
(هذا المنهج الإلهي، الذي يمثله "الإسلام" في صورته النهائية، كما جاء
بها محمد صلى الله عليه وسلم، لا يتحقق في الأرض، وفي دنيا الناس، بمجرد تنزله من
عند الله. لا يتحقق بكلمة: “كن” الإلهية، مباشرة لحظة تنزله. ولا يتحقق بمجرد
إبلاغه للناس وبيانه. ولا يتحقق بالقهر الإلهي على نحو ما يمضي ناموسه في دورة
الفلك وسير الكواكب.
إنما
يتحقق بأن تحمله جماعة من البشر. تؤمن به إيماناً كاملاً، وتستقيم عليه - بقدر
طاقتها- وتجتهد لتحقيقه في قلوب الآخرين وفي حياتهم كذلك، وتجاهد لهذه الغاية بكل
ما تملك... تجاهد الضعف البشري والهوى البشري في داخل النفوس. وتجاهد الذين يدفعهم
الضعف والهوى للوقوف في وجه الهدى... وتبلغ - بعد ذلك كله - من تحقيق هذا المنهج،
إلى الحد الذي تطيقه فطرة البشر، والذي يهيئه لهم واقعهم المادي. على أن تبدأ بالبشر من النقطة التي هم فيها
فعلاً، ولا تغفل واقعهم، ومقتضياته في سير وتتابع مراحل هذا المنهج الإلهي... ثم تنتصر
هذه الجماعة على نفسها وعلى نفوس الناس معها تارة. وتنهزم في المعركة مع نفسها أو مع نفوس الناس
تارة.. بقدر ما تبذل من الجهد . وبقدر ما تتخذ من الوسائل المناسبة للزمان
ولمقتضيات الأحوال. وقبل كل شيء... بمقدار ما تمثل هي ذاتها من حقيقة هذا المنهج،
ومن ترجمته ترجمة عملية في واقعها وسلوكها الذاتي.)
الثانية : إذن جهد البشر، مطلوب،
وهو الأساس، لأنه تعبير عن المجاهدة، والتضحية، والعمل، والبذل، والعطاء، والأخذ
بأسباب نجاح المشروع الإسلامي، وهذا يمثل قمة حالات التوكل الصادق، على الله تبارك
وتعالى.
ثم بقدر ما نحقق الأمر، في عالم
السبب، والجهد والتخطيط، ومن ذلك كثرة ذكر الله، والتحقق بمنهج العبودية له، في كل
مفاصلها ودقائقها، يكون التأييد الرباني، والعون الإلهي، والمدد السماوي، وهذا هو
التوفيق من الله تعالى، ولا يكون إلاّ لمن أخلص وجاهد وعمل وسهر وبذل وضحى.
*يقول سيد ص 8 و9 : (إن كون هذا
المنهج الإلهي متروك تحقيقه للجهد البشري، في حدود الطاقة البشرية، وفي حدود
الواقع المادي للحياة الإنسانية في شتى المدارج، وشتى البيئات.. لا يعني استقلال
الإنسان نهائياً بهذا الأمر، وانقطاعه عن قدرة الله وتدبيره، ومدده وعونه وتوفيقه
وتيسيره.. فتصور الأمر على هذا النحو مخالف في أصوله لطبيعة التصور الإسلامي.
ولقد
بينا فيما سلف أن الله -سبحانه - يساعد من يجاهد للهدى: " والذين جاهدوا
فينا لنهدينهم سبلنا "... وانه يغير حال الناس حين يغيرون ما بأنفسهم،
وأنه لا يغير ما بهم حتى يغيروا ما بأنفسهم: " إن الله لا يغير ما بقوم
حتى يغيروا ما بأنفسهم ".
وهذان
النصان يوضحان لنا العلاقة بين الجهد البشري الذي يبذله الناس، وعون الله ومدده
الذي يسعفهم به، فيبلغون به ما يجاهدون فيه من الخير والهدى والصلاح والفلاح.
فإرادة
الله هي الفاعلة في النهاية، وبدونها لا يبلغ "الإنسان" بذاته شيئاً،
ولكن هذه الإرادة تعين من يعرف طريقها، ويستمد عونها ويجاهد في الله ليبلغ رضاه.
وقدر
الله - مع ذلك كله - هو الذي يحيط بالناس والأحداث، وهو الذي يتم وفقه ما يتم من
ابتلاء، ومن خير يصيبه الناجحون في هذا الابتلاء.
وهذه
هي الحقيقة التي شاء الله - سبحانه- أن يعلمها للجماعة المسلمة. وهو يبين لها في
التعقيب على غزوة أحد أسباب النصر وأسباب الهزيمة - من عملها - ثم يكشف لها عن
حكمة الله من وراء الابتلاء كله، ومن وراء النصر والهزيمة: وعن تدبيره كذلك "
ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه. حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر،
وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون: منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة، ثم
صرفكم عنهم ليبتليكم ". وليعرفهم سنته الشاملة. ومردها في النهاية إلى
مشيئته الطليقة وقدره النافذ من وراء الأسباب والوقائع: "إن يمسسكم قرح
فقد مس القوم قرح مثله. وتلك الأيام نداولها بين الناس. وليعلم الله الذين آمنوا،
ويتخذ منك شهداء. والله لا يحب الظالمين. وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين".
وإذن
فهو - في النهاية - تدبير الله ومشيئته وقدره، ليتم ما يريده من وراء الأسباب
والأحداث. ).
وفي نهاية الأمر، لا تعارض بين
القضيتين، فالمشروع الإسلامي، يحتاج إلى أمة من الناس، يسهرون من أجل تحقيقه،
ويتعبون في سبيل حصوله واقعاً ملموساً، ويواصلون النهار بالليل، من خلال خطط
وبرامج، ونفوس كبار، خلصت من حظوظ نفوسها، وعمل في عالم السبب، متوكلة على الله
تعالى، وباحثة عن رضاه، جمعت بين فقه الواقع، وفقه الدعوة، وزاوجت بين مناهج
التربية، وعوالم المعرفة، ووفقت بين متطلبات الروح، وذخائر المادة، تحفها عناية
الله، ويتنزل عليها النصر بإذنه.
ولا يمكن للمنهج الإلهي أن يتحقق،
بلا وجود هذه الأمة من البشر، الذين يحملون على عاتقهم أمانة التكليف الرباني.
فالنصر لا يتنزل على المتواكلين
الغافلين النائمين، السادرين في غفوتهم، واللاهين في انحدارهم المرهق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق