هذا الربيع الذي جاء في ساعة
بركة، لم يكن وليد ساعة، ولكنه كان على أثر تراكميات مذهلة من عناقيد الشر،
وصناديق فضائح الفساد، وتراكيب الانحطاط السياسي والاقتصادي والأخلاقي، ومنظومات
الفساد، حتى تحولت البلاد إلى زنزانة منفردة، ولو كانت كبيرة، وربما كان كبرها
عاراً وشناراً، على الأمة، ليتسع مزيداً من الأحرار، وليقع في دائرة ويلها، كل
الوطن.
2-إن الذي خلفه حكم الدكتاتوريات
والاستبداد، من نواتج الفساد، لا يكاد يوصف، بل كل الدراسات والأرقام والاحصاءات،
التي تحدثت عن هذا الفساد، ربما لا تعبر إلاّ عن جزء يسير من هذه الحقيقة.
وكذلك كل الذين كتبوا عن السجون، والبوابات السوداء، والقواقع المظلمة،
ما زال في جعبة كثير منهم، مما لم يقل لظروف وأحوال وحسابات.
فالإنسان العربي، في ظل هذه
الأنظمة المستبدة، صار يتلمس نفسه، ويقول للذي بجانبه ( اقرصني) حتى أتأكد من أني
أعيش الحقيقة المرّة، ولست في منام.
ولسان حاله، يقول: هل هذا الذي
نعيشه في خيمة هؤلاء الطغاة، يعبر عن
إنسانيتي؟ أم أني دخلت في طور آخر، ووصف مختلف ؟!
3-إلى متى نبقى ننتظر وعودهم، ونصدق
أحلام يقظتنا، ونخرج على أطراف دروب الرجاء، نترقب، ونتهيأ ، ونرتب أنفسنا، ونصلح
منظرنا، ونمشط شعرنا، لعل غائبنا يحضر ؟!
يسجن المرء سنين طويلة، ويعذب
عذاباً أليماً، على كلمة قالها بحق الملهم الموهوب، والقائد الضرورة، وربما علق
على حبل مشنقة، لأنه عدو الثورة، وخصم الشعب !! ويريد الانقلاب على نظام الحكم !!!
4-لقد ملَّ الناس، سماع الخطب الحماسية
باسم الشعب، وضجوا من هذا الفصام النكد، بين النظرية والتطبيق، وكرهوا الشعارات
الجوفاء، وعلمت الجماهير – التي صفقت كثيراً لهؤلاء، وغنت لهم – علماً يقينياً، إن
هؤلاء القوم يضحكون عليهم، ويخدرونهم بالأحلام الوردية، التي ما جنوا منها، سوى
الفقر المدقع، والزحام أمام وسائل المواصلات، والطوابير على أبواب الأفران،
والمرتبات التي لا تكفي سوى بضعة أيام.
وليت الأمر اقتصر على هذا، ولو
انحصر فيه لهان، بل كان الأمر أفظع وأكبر وأعظم.
فالأمر
يتعلق بمصائر أمة، وأجيال من البشر، ويرتبط ارتباطاً مرعباً بمستقبل البلد، بكل
مفردات الحقيقة، في هذا الشأن، أخلاقاً وديناً وسياسة واقتصاداً واجتماعاً
وتعليماً وإعلاماً وقانوناً وتنمية وبنية تحتية.
فما
بعد سئم الشعوب، سوى الثورة، إنها فطرة الله التي فطر الناس عليها.
وللحرية
الحمراء باب بكل يد مضرجة يدق
ويصدح
في الأفق قول الملهم الرباني : [ متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً
].
وهكذا
فالضغط يولد الانفجار، وصبر الشعوب له حدود، والمقدمات لها نواتج، ولكل فعل ردُّ
فعل، والذي يستهين بمثل هذه الحقائق، لم يقرأ التاريخ، ولم يعرف الجغرافيا، ولم
يفهم علم الاجتماع السياسي، في معرفة، أسباب النهوض، وعوامل السقوط، وهنا تكمن
الكارثة، وتكون الطامَّة، كيف لا وهناك أمية مذهلة، لدى كثير من الساسة، في فقه
هذه الأشياء.
بل
استهتار بعض الساسة بالشعوب، وسخريته منهم، هي التي دفعته إلى ارتكاب الحماقة، في
معاكسة تيار التغيير الشعبي، فصارت كلمته المدوية ( من أنتم ) شعار هذه الحماقة
التي أهلكته، ولو مارس التواضع السياسي، والتنازل الفطري، والبحث عن الحقيقة، والاستماع
للمطالب المحقة، بعيداً عن طقطقة المطقطقين حوله، ربما كان الأمر له شأن آخر،
ومستوى مختلف في التعاطي مع الحدث.
5-قام الربيع العربي المبارك، وتنفس
الناس الصعداء، واستبشرت الجماهير بعودة روح الأمل للإنسان العربي، وأنه سيستعيد
كرامته، ويبني مجده التالد، ويصنع مستقبله بيده، ويحقق حريته، ويعيش كما ينبغي
للإنسان أن يعيش.
ويا لها من أيام رائعة، تلك التي عاشتها
الأمة وهي ترقب، هذا الحراك المذهل، وتستلذ بتلك الشعارات المبدعة، والهتافات
المنعشة، والصرخات الحرة، وصارت كل واحدة منها، أناشيد فداء، وعناوين مجد قادم.
وعلى عجل ، صار المشهد حقيقة مذهلة، فالجماهير تسقط
هؤلاء الطغاة، وعلى طريق السقوط طاغية الشام ومن معه من المجرمين، وها هي
الجماهير، تستنشق عبير إنسانية الإنسان، لتكون كلمات ( لقد هرمنا ) وكلمات ( أنا
إنسان ولست حيواناً ) مرحلة لميلاد جديد، سيكون مستقبلاً زاهراً لهذه الأجيال
الجديدة.
6-ثم كان ما كان، وصارت عناكب الجريمة،
تنسج خيوط الفتنة، في ديار الربيع، ليحولوه إلى خريف مرٍّ، ويؤدبوا كل من يفكر حتى
مجرد تفكير بريبع آخر.
وحيكت المؤامرات، ووضع العقبات،
وصنعت المشكلات، وافتعلت الكارثات، ورتبت الأزمات، وركبت الشائعات، ودبرت
الانقلابات، من أجل تأديب شعوبنا، حتى يكونوا درساً لغيرهم، وعبرة لمن يفكر بمثل
ما فكر به هؤلاء.
7-وفعلاً سقط بعض ضعاف النفوس، في فخ هذا
المقصد الشرير، يساندهم إعلاميون مشهورون بالتلون والتقلب، لأنهم مع من يدفع أكثر،
ويطبلون ويزمرون، ويخيفون ويرجفون، لمن يبذل ما يسيل اللعاب.
حتى
صار قسم من الناس، يترحمون على أيام فلان وعلان، والنظام الفلاني والعلاني، بل صار
بعضهم يتمنطق بتلذذ، باكياً على أيام الزمن الجميل ؟؟!! والأيام الحلوة، وهذا كله
إما من باب الغباء، أو من باب اليأس – والعياذ بالله – وإما من باب التدليس والحرب
النفسية.
فهل
يمكن لعاقل حر، أن يرجع لعصر الاستبداد ؟ وهل لصاحب كرامة، أن يعود إلى زمن الذلة
؟ وهل لفاهم أن يعشق الظلم ويريده ؟ وهل لمثقف أن ينادي بالدكتاتورية حكماً ؟ وهل
لمن ذاق طعم الحرية، يرغب بأيام الويل والقهر والزنازين ؟
8-وللبيان والنصح، لابد من وضع النقاط
على الحروف، في هذا الأمر، حتى لا يخدع سياسي، ولا يستغفل مسكين: إن الشعوب شبت عن
الطوق، وخرجت من قمقم الغفلة، وكسرت قوقعة التضليل، وإن وعي الإنسان بحقوقه، وما
له وما عليه، أخرجته من طور الأمية السياسية، إلى مفاهيم الحراك الجماهيري، وإن
روح التضحية، باتت تنتعش بكل جسد إنسان حي، وإن انتفاضة الكرامة، تغلي في دم
الناس.
فلمن
يهمه الأمر: تصالحوا مع شعوبكم، وعيشوا هموهم، وانزلوا من أبراجكم العاجية إلى
حقائق مطالب الناس، وبهذا يحبكم الناس، ويتعاونون معكم، بل وسيحمونكم.
وكونوا عقلاء، في التعاطي مع قضاياهم ومطالبهم،
وساندوا الشعوب المقهورة المظلومة، ولا تكونوا مع جلادي الشعوب، وإياكم والمكابرة،
وركوب مراكب الطغيان، ولا تتصوروا الحلول الأمنية، أنها المنقذة، ولا تفكروا أن
القهر سبيل الديمومة، ولا تغشوا أنفسكم بتدابير أمواج الاستبداد، والعدوان على
حقوق الإنسان، فهذا كله يزيد الطين بلة، ويسير بنا نحو النفق المظلم.
(
وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون )
أقول
هذا صادقاً في نصحي، وأنا أقرأ الواقع، وأتلمس حقائقه، وأدرك أن سفينة التغيير، لن
ترسوا إلا في مرفئها المقرر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق