مرَّ رجل من أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم بشعبِ جبل لا يقصده أحد، فرأى فيه عين ماء عذب، فأعجبته، فقال: وددت لو اعتزلت
الناس في هذا المكان المنقطع أعبد الله تعالى، فلا تقع مني إساءة لأحد، ولا يسيء أحد
إليَّ فألقى ربي خفيفاً نظيفاً ليس لأحد عليَّ مظلمةٌ، ولن أفعل ذلك حتى أستأذن رسول
الله صلى الله عليه وسلم .
فلما جاءه وأخبره بالشعب وعُيَيْنة
الماء ورغبته في اعتزال الناس هناك، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لا تفعل،
فإن مُقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته سبعين عاماً، ألا تحبون أن يغفر
الله لكم، ويدخلكم الجنة؟!)
قال الحاضرون: بلى، قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : (اغزوا في سبيل الله)، ثم أردف عليه الصلاة والسلام قائلاً:
(والذي نفس محمد بيده لوددت أن أغزو في سبيل الله فأُقتل، ثم أغزو فأُقتل، ثم أغزوَ
فأُقتل).
صمت الناس، وهم بين متعجب من فضل الجهاد
ومفكِّرٍ في ما يعادله من الثواب.
قال رجل: يا رسول اله، فما جزاء من
قاتل في سبيل الله؟
قال صلى الله عليه وسلم : (الجنّة،
من قاتل في سبيل الله من رجل مسلم فُواقَ ناقة – الفواق ما بين الحلبتين من الزمن
– وجبت له الجنّة، ومن جرح جرحاً في سبيل الله أو نُكبَ نكبةً فإنها تجيء يوم القيامة
كأغزر ما كانت، لونها الزعفران وريحها كالمسك).
قال رجل: ما الذي يعدل الجهاد يا رسول
الله؟
قال صلى الله عليه وسلم : (لا تستطيعونه)،
فكرَّرَ عليه السؤال، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تستطيعونه)، فلما تعجبوا قال عليه الصلاة
والسلام:
(مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم، القائم،
القانت بآيات الله، لا يفتُر من صلاة ولا صيام حتى يرجع المجاهد في سبيل الله).
قال الحاضرون: مَنْ يستطيع ذلك؟! لن
تجد إلا الملائكة يستطيعون ذلك.
ثم إن فتى جاء إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني أريد الغزو،
وليس معي ما أتجهز به. قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم : (ائت فلاناً، فإنه كان
قد تجهّز للحرب، فمرض، فأقرئه السلام وخذ ما تجهّز به).
فذهب الفتى إلى الرجل المريض، فسلّم
عليه، ثم قال له: رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقرئك السلام ويقول: أعطني الذي تجهّزت به.
قال الرجل: سمعاً وطاعة لرسول الله،
ثم التفت إلى امرأته فقال: يا فلانة أعطيه الذي كنت تجهّزتُ به، ولا تحبسي عنه شيئاً،
فوالله لا تحبسين منه شيئاً فيباركَ الله لك فيه، فأدّته إليه كاملاً.
وجاء رجل مدجج بالسلاح إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أتأمرني
أن أسلم ثم أقاتل أم أقاتل ثم أسلم؟
قال صلى الله عليه وسلم : ((لا يقبل
الله العمل إلا بعد الإيمان، فأسلم ثم قاتل)).
فحين أسلم الرجل ثم قاتل، َقُتِل،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (عَمِلَ قليلاً وأُجِر كثيراً).
قال رجل: فما فضل الشهادة يا رسول
الله؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
: (ما أحدٌ يدخل الجنة يجب أن يرجع إلى الدنيا، وله ما على الأرض من شيء إلا الشهيد،
يتمنّى أن يرجع إلى الدنيا، فيُقتل عشرَ مرات، لِما يرى من الكرامة).
والتقى المسلمون في غزوة بدر بالمشركين،
وصفّ الرسول الكريم صل الله عليه وسلم المسلمين
ثم قال: (لا يباشرْ أحد منكم بالقتال إلا إذا أذنت لكم)، فقالوا: سمعاً وطاعةً، ثم
إنّ المشركين هاجموا المسلمين، فلما وصلوا إلى مرمى سهامهم أمرهم القائد الفذُّ صلى
الله عليه وسلم فرشقوهم بالسهام، فلما دنوا
أمرهم أن يرموهم بالرماح، فلما تلاحموا بدأ الطعن والضرب بالسيوف، ونادى رسول الله
صلى الله عليه وسلم : (قوموا إلى جنّة عرضها السماوات والأرض) ، فقال عمير بن الحمام
الأنصاري، رضي الله عنه: يا رسول الله؛ جنّة عرضها السماوات والأرض؟ قال: (نعم). فقال
عمير: بخٍ بخٍ متعجباً، مفخماً ما سمعه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(ما الذي
دعاك إلى قول بخٍ بخٍ؟) قال عمير: يا رسول الله رجاء أن أكون من أهلها، قال الرسول
صلى الله عليه وسلم : (فأنت من أهلها).
وأخرج عميرٌ تمرات من جَعبته، فجعل
يأكل منهن ثم حنَّ إلى القتال، فقال: لئن أنا حييت حتى أكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة،
إنها لحياة طويلة، لا أريدها، فأنا أصبو إلى حياة دائمة تمنعني عنها هذه التمرات، فرمى
ما كان معه من تمرات، ثم قاتل المشركين، يضرب هنا وهناك حتى قتل، فدخل الجنّة فهو في
حوصلة طير أخضر يأكل من ثمار الجنّة، ثم يأوي إلى عرش الرحمن آمناً مطمئناً.
رياض الصالحين
كتاب الجهاد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق