قال تعالى:
" ألم يأن للذين
آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب
من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم ،وكثير منهم فاسقون ، اعلموا أن الله يحيي
الأرض بعد موتها قد بيّنّا لكم الآيات لعلكم تعقلون،" سورة الحديد 16-18
يربي أحدنا ولده على الأدب
والتحلّي بالشمائل الحميدة ، فإن أخطأ مرة وحاد عمّا رُبّي عليه نظر الأب إليه
نظرة عتاب دون أن يكلمه ، فلعلَّ النظرة – في هذه الحالة – خير مُربٍّ. فإن عاد
فأذنب واستمرأ الخطأ قال له والده مؤنباً مستأخراً توبته :أهكذا ربّيتك ياولدي،
أما آن لك أن تقلع عن خطئك وتتوب عن زلاّتك،وقد ربيتك على فضيلة وغذَوتك العملَ
الصالح ومكارم الأخلاق؟!
ومن ربّى تابع مهمّته
وقوّم الاعوجاج بالنصح والإرشاد ثم بالعتاب واللوم ، ثم بالتوبيخ والتقريع، ثم
بالعقوبة المناسبة تعليماً وزجراً.
وقوله تعالى ( ألمْ يَأنِ)
عتاب واستعجال للكمال في العباد الذين رباهم رسوله صلى الله عليه وسلم على التزام
الصراط القويم ، ولا بدّ من التذكير كل فترة، فالإنسان خُلق من ضعف وشبّ على نقص،
ويحتاج إلى شحذ الهمة والدفع إلى الخيرات والتحذير من الوقوع في الآثام والمعاصي.
وفي معنى قوله تعالى ( ألم
يأنِ للذين آمنوا ) خطاب غير مباشر للذين آمنوا حين تحدث عن الغائبين لفظاً،
الحاضرين حالاً ،وكان أول ما أمروا به أن تخشع القلوب للخالق جل وعلا ، والقلبُ لب
الجسم بخشوعه تخشع الجوارح ، وكلما كان القلب خاشعاً لله خائفاً منه محباً لذاته
أكثرَ من ذكره ،وارتبطت حياته بطاعته سبحانه . إنَّ ذِكرَ الله علامة الإيمان
وسبيلُ العفو والمغفرة ، (وأفضل الذكر لا إله إلا الله). ومن وهب لله حياته عمل
بمقتضى إيمانه ونال رضا مليكه ،ففاز بثوابه ونجا من عقابه.
والغفلة تورث البعد ،
والبعد يورث الضلال، والضلال سمة الضالين من أهل الكتاب الذين قست قلوبهم حين فرغت
من ذكر الله وعبادته، وضعف اتصالها به.
وكما يحيي الله الأرض بماء
المطر يحيي القلوب بفيض عطائه ونور شريعته ،وكما يحيي الأرض بماء السماء يعيد
إحياء المخلوقات يوم الدين. إنها معادلة واضحة لكل ذي عينين.
يذكر القرطبي رحمه الله في
شرح هذه الاية أن
المزاح والضحك كثر في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لما ترَفَّهوا بالمدينة ,
فنزلت هذه الآية , فقال صلى الله عليه وسلم : ( إن الله يستبطئكم بالخشوع ) فقالوا
عند ذلك : خشعنا.
وسمي
الفاسق فاسقاً لخروجه عن الفطرة واتباعه الهوى والشيطان ،وركونه إلى الدنيا ورغبته
فيها ونسيانه الآخرة والعملَ لها.
" يا أيها الذين
آمنوا ؛ اتقوا الله وآمنوا برسوله يُؤتكم كِفلين من رحمته،ويجعل لكم نوراً تمشون
به ، ويغفر لكم، والله غفور رحيم" سورة الحديد الآية 28.
من النصارى قومٌ ظلوا على
دين التوحيد يؤمنون بعيسى عليه السلام نبياً، وهؤلاء صبروا على التوحيد حتى بُعث
النبي صلى الله عليه وسلم ، وكانوا من التقوى بمكان مكين ،فلهم حين يؤمنون برسالة
الإسلام ويعملون لها :
1- أجرٌ مضاعفٌ،يُؤتَون
أجرهم مرتين بما صبروا وآمنوا .والكِفل : الحظ والنصيب الوافي من الأجر والثواب
فينجّيهم الله تعالى ، في دنياهم من الضلال وفي الآخرة يدخلهم الجنة .
2- ويغدق المولى سبحانه عليهم
من رحمته وينير قلوبهم وحياتهم في دنياهم ويضيء لهم آخرتهم حين لا شمس إذ ذاك ولا
نجوم ولا قمر.
3- تُغفر ذنوبُهم ، ومن
غُفر ذنبُه كان من أهل الرضوان والسعادة الأبدية.
كثير ممن كانت لهم رياسة
النصرانية أو اليهودية وخدموها بما أوتوا ثم تبيّن لهم الهدى من الضلال، فأسلموا
قيادهم لله تعالى رفعَ الله سبحانه أقدارهم في الدنيا بإيمانهم ودعوة الناس إلى
الإسلام والتفاني بهذه الدعوة ،وبشّرهم بنعيم الآخرة وخلود الحياة فيها في جواره –
سبحانه- وكرمه.
ولا تسل عن عقاب أهل
الكتاب الذين حرّفوا وبدّلوا فقست قلوبهم وزاغوا عن درب الهداية وباعوا نفوسهم
للشيطان فكانوا ادوات في الإفساد والصد عن سبيل الله ، هؤلاء ظلموا أنفسهم ورموا
بها في مهاوي الدركات السفلى من النار .
إن لكلٍّ من عمله واجتهاده
نصيباً، فأنعم بمن باع حياته لله ، وأبئِس بمن باع نفسه للشيطان وغوايته،
إنه سبحانه يدعونا إلى
خشيته والخشوع في عبادته والتقرّب إليه لنيل مرضاته ..
هل نعد بذلك ونسعى إليه ؟!
اللهم اهدنا لأحسن الأحوال
، لا يهدينا لأحسنها إلا أنت ،
وأبعد عنّا سيئها ، لا يُبعد عنّا سيئها إلا انت
.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق