في عهد عبد الملك بن مروان بدأ خروج الصالحية التي يجعلها بعض
العلماء فرقة من الفرق، بينما هي في الحقيقة حركة ثورية – أكثر منها فرقة دينية –
من تلك الحركات التي كانت تحدث بين آونة وأخرى على الخلفاء الأمويين تزعمهم صالح
بن مسرح أو ابن مشروح كما يسميه بعضهم، حين خرج في هلال شهر صفر سنة 76هـ ،
وكون له جماعة حارب بهم جيش الأمويين، وكانت له بعض الآراء التي أخذها من أسلافه
من الخوارج قبله.
وعند خروجه دعا شبيباً للخروج معه فأجابه شبيب وأقبل ومعه
جماعة من أصحابه إلى دارا، وحينئذ عزم صالح على الخروج، ولكن تلك الجهات قد تحصنت
منه، ولما بلغ محمد بن مروان مخرجهم – وهو أمير الجزيرة حينذاك – أرسل إليهم جيشا
يقوده عدي بن عدي الكندي في ألف فارس، ولكن صالحا باغتهم فانهزموا هزيمة منكرة
وهرب عدي فانتهب الخوارج ما وجدوا في معسكر عدي، وحين أقبلت فلول عدي غضب عليهم
محمد بن مروان، فأرسل لهم قائدين أيهما وصل الأول فهو أمير صاحبه أحدهما خالد بن
جزء السلمي في ألف وخمسمائة فارس، والثاني الحارث بن جعونة العامري وبعثه في
ألف وخمسمائة فارس، فالتقوا بصالح في آمد.
ولكن صالحا قسم جيشه إلى قسمين أيضا. قسم بقيادة شبيب وكان من
أشجع الفرسان وجهه إلى الحارث بن جعونة، وقسم بقيادته هو وتوجه إلى خالد فنشبت
المعركة من وقت العصر إلى الليل وكثر الجرحى والقتلى في جيش الخلافة، وقتل من
أصحاب صالح ثلاثون رجلا، وفي الليل تم رأيهم على أن يذهبوا إلى الدسكرة.
وحين وصلت أخبارهم إلى الحجاج بعث لهم جيشا من أهل الكوفة
يبلغ ثلاثة آلاف بقيادة الحارث بن عميرة بن ذي المشعار الهمداني، وحين وصلوا إلى
صالح بن مسرح بدأت المعركة وكان صالح في تسعين رجلا واشتدت المعركة جدا فقتل صالح
فيها وكاد شبيب أن يقتل وحينذاك نادى من بقي من أصحابه وكانوا 70 رجلا: إلي يا
معاشر المسلمين؛ فلاذوا به فقال لأصحابه: ليجعل كل واحد منكم ظهره إلى ظهر صاحبه
وليطاعن عدوه، حتى ندخل هذا الحصن ونرى رأينا.
وفعلا تقدموا إلى الحصن وتحصنوا به فأمر الحارث بالباب أن
يحرق فحرق فقال لأصحابه: إنهم لا يقدرون في الخروج منه ومصبحهم غدا فنقتلهم، وقد
بايع الخوارج شبيبا في ليلتهم تلك، ثم أتوا باللبود فبلوها وجعلوها على جمر الباب
وخرجوا، فلم يشعر الحارث ومن معه إلا والخوارج يضربون رؤوسهم بالسيوف فصرع الحارث
فاحتمله أصحابه وانهزموا نحو المدائن هاربين، فأخذ شبيب كل ما بقي في معسكر
الحارث.
وشبيب هذا هو شبيب بن نعيم بن يزيد الشيباني ويكنى بأبي
الصحاري، وله من الشجاعة والمعرفة بفنون الحرب ما يكاد يكون خيالا. لقد كان قائدا
فذا مجربا للحروب يروغ روغان الثعلب ويهجم هجمة الأسد، قتل من جيش الخلافة الآلاف
والعديد من القواد رغم قلة جيشه.
ولما أحس صالحاً بالموت قال لأصحابه: قد استخلفت عليكم شبيبا
وأعلم أن فيكم من هو أفقه منه ولكنه رجل شجاع مهيب في عدوكم فليعنه الفقيه منكم
بفقهه. ثم مات وبايع أتباعه شبيبا.
وقد خالف شبيب صالحاً في مسألة جواز تولي المرأة الإمامة
العظمى؛ إذ كان شبيب يجيزها إذا قامت بأمورهم وخرجت على مخالفيهم، ولهذا فقد تولت
زوجته غزالة قيادتهم بعد مقتل شبيب.
وقد اشتهر شبيب بالشجاعة وخوض الحروب فقد دوخ بني أمية وهزم
لهم أكثر من عشرين جيشا في خلال سنتين. وجه أول جيش إليه من قبل الحجاج بقيادة
عبيد الله بن أبي المخارق ومعه ألف فارس فهزمهم شبيب، ثم وجه إليه الحجاج عبد
الرحمن بن الأشعث فهزمهم شبيب، ثم وجه إليه عتاب بن ورقاء التميمي فقتله شبيب هو
وزهرة بن حوية.
وتذكر مصادر التاريخ أن شبيبا قتل من جيش الحجاج أربعة وعشرين
أميراً كلهم أمراء الجيوش. فكم يكون القتل من أتباعهم؟! وكان شبيب قلما ينهزم في
معركة إلا لحيلة أو للإعداد لكرة أخرى. في كل تلك المعارك التي خاضها مع
جيوش الخلافة وحتى البدو لم يسلموا من شبيب؛ فقد أغار عليهم وأرهبهم في عدة غزوات
لهم، وقد داهم الحجاج في عقر داره بالكوفة؛ فقد دخلها هو وزوجته غزالة، وخطبت على
منبر الكوفة وفاء بنذرها، وصلى أيضا الصبح في مسجد الكوفة. وقد تنقل في ليلته تلك
في أكثر من مساجد الكوفة لا يجد أحدا إلا قتله.
وقد خبأ الحجاج نفسه فلم يخرج تلك الليلة إلى أن اجتمع له
أربعة آلاف من جنده ثم خرجوا يقتتلون في سوق الكوفة، حتى كثر القتل في أصحاب شبيب
فانهزم إلى الأنبار.
وفي السنة السابعة والسبعين من الهجرة أو الثامنة والسبعين
(على قول) كانت نهاية شبيب إذ مات غريقاً، وذلك أنه حين أراد الانصراف من قتال أهل
الشام إلى الجهة الأخرى من جسر دجيل الأهواز أمر أصحابه فتقدموا أمامه وتأخر هو في
آخرهم وفي أثناء عبوره كان راكبا على حصان وكانت أمام الحصان فرس أنثى فنزا فرسه
عليها، فخرج حافره على حرف السفينة فسقط في الماء.
وانتهت حركته وتفرق من بقي من أتباعه.
===
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق