قبل 12 سنة وصل حزب "العدالة
والتنمية" إلى السلطة في تركيا. في العام 2002 كان الدخل السنوي للمواطن التركي
3500 دولار، وفي العام 2014 صار 10.500 دولار. ليس هذا هو المؤشر الوحيد على نجاحات
حزب "العدالة والتنمية"؛ فقد انتقلت تركيا من المرتبة 111 في ترتيب القوة
الاقتصادية عالمياً إلى المرتبة 16، وارتفع إجمالي الصادرات من 23.5 مليار دولار إلى
153 مليار، وتقدمت الصناعة التركية على نحو مذهل في المجالات المدنية والعسكرية، كما
البنية التحتية ومستوى الخدمات في البلد، وفازت الخطوط الجوية التركية كأفضل ناقل جوي
في أروبا 3 مرات على التوالي، وأصبح مطار اسطنبول الدولي (أتاتورك) يستقبل وحده
1260 طائرة يومياً.
كثيرة هي إنجازات حزب "العدالة
والتنمية" التي أسهمت في فوزه مرة جديدة في الانتخابات البلدية قبل أيام، رغم
سلسلة من الهزات الخطيرة التي تعرض لها الحزب، والتي دفعت إلى الاعتقاد أنه سيتراجع
إلى حد الخسارة، لكن النتيجة المذهلة أن الحزب تقدم من 38.8% في الانتخابات البلدية
عام 2009 إلى نحو 46% في انتخابات العام 2014، مع تحقيق مفاجآت في أنقرة وإنطاليا،
وتقدم مهم في إزمير.
ولا جديد في القول إن زعيم الحزب رئيس
الوزراء رجب طيب أردوغان كان محور الانتخابات كلها؛ فقد تركزت الأنظار عليه، لكن حزبه
تقدّم على منافسيْه الرئيسيين؛ حزب "الشعب الجمهوري" (25%من الأصوات تقريباً)،
وحزب "الحركة القومية" (17% تقريباً)، بينما أخذ حزب أردوغان من الشارع الكردي
نسبة جيدة من الأصوات بفضل المقاربات التاريخية التي تقرّب بها أردوغان من الأكراد
(أبرز الأحزاب الكردية؛ "السلام والتنمية" نال 4% من الأصوات ويتركز ثقله
في ديار بكر)، وابتلع مؤيدي أستاذه السابق نجم الدين أربكان (نال حزب أربكان –حزب السعادة-
2% من الأصوات)، بفضل التوجهات الإسلامية التي يعتمدها أردوغان (إعادة تدريس القرآن
الكريم في المدارس الحكومية لمن يرغب، وإعادة فتح المدارس الدينية، ومكافحة الدعارة،
وحماية الحق في ارتداء الزي الإسلامي...)، والأبرز انكشاف حجم جماعة فتح الله غولن
(مقيم في أميركا ويرأس حركة "خدمة")، والتي بالغ خصوم الحكومة في حجمها،
لا سيما بعد دعمها التظاهرات ضد أردوغان، حتى وصل بعضهم إلى أنها تمثل 25% من الشعب
التركي، فإذا هي في الاختبار الانتخابي مجرد فقاعة؛ أكثر منها قوة شعبية حقيقية (تشرف
الحركة التي توصف بالإسلامية على صحيفة "زمان"؛ أهم صحيفة تركية، ولها أنصار
لا بأس بهم فيما يسمى الدولة العميقة، وقد كانت داعمة لأردوغان في الدورات الانتخابية
السابقة).
ومن الجدير بالذكر أن الانتخابات البلدية
التركية لم تكن لتحظى بهذه الأهمية الإقليمية لولا توجهات أردوغان الخارجية، وسعي أكثر
من طرف لإسقاطه؛ فقد حظي الرجل بشعبية كبيرة في العالم العربي والإسلامي بسبب وقوفه
إلى جانب الشعب الفلسطيني، والأقليات المسلمة المضطهدة، والأهم تأييد حزبه لثورات
"الربيع العربي"، بما في ذلك دعم حركة "الأخوان المسلمين"، أما
الأكثر أهمية فهو موقف أردوغان من القضية السورية، مع ما يعني ذلك؛ من سعي الدول المؤيدة
للنظام السوري الإطاحة به.
وكما هو ديدن من يسمون أنفسهم ممانعين؛
فقد روجوا ثم صدقوا أن أردوغان في حالة صعبة. بلغت ثقة هؤلاء بأنفسهم أن قال ممثلهم
لدى الأمم المتحدة بشار الجعفري بكل ثقة: "إن أردوغان، سيدفع ثمن سياسته العدوانية
في الانتخابات"، لكن أماني سفير النظام السوري لم تتحقق، رغم تلاقي مصالح عدد
من القوى التركية وغير التركية على العمل لإضعاف أردوغان.
لقد شكّل الحوار الهاتفي بين رموز
الدولة التركية حول احتمال التدخل العسكري في سوريا؛ ذروة السعي لإسقاط أردوغان عشية
الانتخابات. والواقع؛ أن هذا التسريب الهاتفي لم يكن في صالح خصوم أردوغان، لأن الأخير
استفاد منه للدلالة على "لا مسؤولية ولا أخلاقية" خصومه؛ "المستعدين
لتسريب ما يمس بأمن الدولة التركية"، مقابل تحقيق مكاسب انتخابية، فضلاً عن ثبوت
خطأ الانطباع الذي يروجه النظام السوري، بخصوص نقمة العلويين في تركيا، بدليل النتائج
الانتخابية في المناطق الحدودية مع سوريا.
إذن تمكن "الفتى الشجاع"
(معنى أردوغان بالعربية) من تحصين نفسه سياسياً وقضائياً، بعدما خضع للاختبار الشعبي
الذي شارك فيه نحو 80% من الناخبين، وهي نسبة قياسية في الدول الديمقراطية، ما سيعطيه
قوة أكبر في مواجهة خصومه في الداخل- وقد توعدهم بعد إعلان فوز حزبه- وجرأة أشد في
التدخل في الشأن السوري.
ومن المتوقع أن يستند أردوغان – في
الشأن السوري- من الآن ولحين الانتخابات الرئاسية بعد نحو أربعة أشهر (وفق الاقتراع
المباشر للمرة الأولى بعد التعديلات التي أقرها البرلمان مؤخراً)، على ما يثير الحفيظة
الوطنية لدى الأتراك؛ تدفق المزيد من النازحين، واضطهاد التركمان، وتعرض ضريح سليمان
شاه في سوريا للخطر (أرض تركية مساحتها نحو 8000 متر مربع داخل الأراضي السورية بموجب
اتفاقية بين تركيا وفرنسا عام 1921)، وانتهاك السيادة التركية، والأخطار الإستراتيجية
المتمثلة؛ باحتمال قيام دولة علوية أو كردية في سوريا إذا تكرس سيناريو التقسيم بحكم
الأمر الواقع.
وانطلاقاً؛ من هذا الواقع سيحظى أردوغان
بدعم شعبي لا بأس به للقيام بخطوات مؤثرة في القضية السورية، بمعزل الولايات المتحدة
الأمريكية أو حلف الناتو، من قبيل؛ فرض حظر جوي فعلي في المناطق الحدودية، أو قيام
القوات التركية بعمليات خاصة داخل الأراضي السورية، أو التدخل العسكري المحدود، فضلاً
عن مواصلة استضافة المعارضة السورية ودعمها.
في أي حال؛ فإن المعارك الانتخابية
أفضل بما لا يقاس بالمعارك الدموية، واللجوء إلى صندوق الاقتراع أفضل بما لا يقارن
باللجوء إلى صندوق السلاح، وأحرى بـ "الممانعين" الذي عولوا على الانتخابات
لإسقاط خصومهم، أن يقتدوا بالديمقراطية التركية، ويوقفوا حمام الدم في بلادهم، ويرحلوا
في سبيل قيام بلد يعرف طعم الانتخابات الحقيقية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق