الصفحات

تنويه

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الرابطة والمشرفين عليها.

Translate

2014-04-14

حين يصيبنا الجّرح في الجذور "حكاية من الواقع...لكن لا تتكلم بالتفاصيل عن أشخاص معينين ؛ فقد جرى التعامل مع الحدث بكثير من المخيلة الأدبيّة" - بقلم: د. سماح هدايا

     يعتصره الألم   أنّ زوجته ماتت. وأن عائلته تشرّد نصفها ونصفها الباقي بين معتقل ومقتول...
مئات الوجوه المؤلمة انحفرت في الذاكرة.. مع تذكرها تنبجس الآلام، لكنْ، ما يكسره عميقا في غور أحاسيسه،  هو ابنته الصغرى.... ومع كل لحظة  تتساقط أجزاؤه من كلّه، جزءاً جزءاً،  مشهدا بعد مشهد،  وذكرى بعد ذكرى....وتتوالى صور الحادث في مخيلته كأنها شريط سينمائي مرعب..
    أكثر ما يستحوذ عليه...وقد  انحفر عميقا في ذاكرته،  هو صورة قدميها الصغيرتين اللتين ضرّبتهما بندقيتهم؛ لكي لا تهرب ولا تقاوم. قدماها الصّغيرتان اللتان كانتا تجذبان الانتباه في حفلات الدبكة وهما ترقصان برشاقة مذهلة وابتهاج. الآن مهشّمتان.


ملمسهما الرخو، عندما أمسك بهما، انغرز في يديه وجلده كمسامير حادة.. قدماها انخرعتا.. وعندما قلّبهما بين يديه كانتا لينتين كالخروع ..أيديهم الغليظة كسرت القدمين ولوتهما لكي تكفّا عن الهرب والحركة والمقاومة...سمع صراخها العميق وطقطقة العظيمات تحت الفتل والألم .. تعثّرت أنفاسه أمام صراخ  الوجع في قدميها حتى الإغماء
    قال: "لملمت بيدي شعرها البنّي الذي تمزق وتقطّع وتبلل... وتيبّس قلبي الذي رقّدته الفجيعة على نار صرخات ابنتي الضحيّة المعتدى عليها... حاولت أن أستنشق من التراب ملح دمعها وملح دمائها. يا الله ...أبشع الآلام طعنتني، وقتها، في الشريان.".
    وقتَ استنجدت به ابنته لم تقدم يداه المساعدة. اندفعت يداه لتكسّر القيود، لكنّ القيود كانت أثقل من قوّته...وكانوا يذلونه ساخرين  من رجولته وكرامته...وكانوا يحاول فكّ القيد لينقذ ابنته.
    قال"أحاسيس القهر وأنفاس الغضب الهائج؛ كادت تقلع قلبي من صدري...ابنتي التي لم تتجاوز عامها الرابع عشر...يُعتدى عليها أمامي وينتهك جسدها بعنف، وأعجز عن حمايتها وردّ الأذى عنها.. إنّي لجبان ضعيف"
كيف ينسى؟ لا يستطيع إلا التذّكر. والتّذّكر مأساة تلازمه، تقلّب آلامه في نيرانها.
    قال"حملت ابنتي... وكانت تغوص وسط الرّمل والدّم والبول والقاذورات... ناديتها بصوت مربوط مخنوق، لعلي أوقظها بحسّي الابوي من الغيبوبة.  يا حبيبة قلبي... يا حبيبة عمري...ياطفلتي...يا صبيتي....لا تموتي..لكنّها لم تسمع صوتي المكتوم، ولم ترد عليّ، ولم يصلها نبض قلبي الملهوف...؛ فركضت بها كالمجنون لكي أنقذها...لكن كيف أنقذها؟ أين؟ لا أعرف."
        رأى، من قبل، في المعتقل السياسي قهر الرجال، عندما جاء  عناصر الأمن بنساء المعتقلين؛ لكي يذلوهن أمام رجالهن ويذلوا رجالهن أمامهم. منهم من كان صديقا له، ومنهم من كان جارا. ومنهم من كان مجرد شريك في الزنزانة. تعذيبهم وإهانتهم أكبر من التصوّر. إذلال نسائهن وإذلالهم،  وجع جسدي ونفسي يحفر ندوبا وشروخا في القلب.
    قال"النسوة الخائفات كنّ ينشدن فينا الحماية..ولم نستطع أن نحميهن.. كنّ ينادين ولم نلبي النداء. العجز حطم  كرامتنا وحطم كبرياءهن وأمنهنّ...العجز ترك الأوغاد يعذبوهن بقسوة وتركنا، نحن الرجال، نتعذب بشدة..
آنذاك احتشى الدمع في العيون وبين الضلوع..وراج يضخ الذل والقهر للقلب والدماء.  كان الوضع غير محتمل، عصيا على تطويع الدمع... ليبقى مخزونا في العين ولايخرج ويفضح صاحبه........
    لكنّي لما  خرجت من المعتقل، وعدت إلى زوجتي وأولادي وأهلي. علمت أنّ أخي، وزوج أختي استشهدا في المعارك. وعادت أختي  إلينا ملفوفة  بالأسود والأحزان،  مع طفلها الصغير وطفل في أحشائها. بينما  استشهد أخي الأعزب؛ فشدّدت الألم على الصبر لأعمل وأساعد في إعالة العائلة، غير أن عصابات الأمن حاصرتني، ولم تترك لي موقع قدم لتحصيل بضع عيش آمن.
    أخي الأصغر يقاتل مع الثوار...جاؤوا ليلا...سألوني وأبي عنه. قلت لهم لا أعرف أين هو. ضربوني وضربوا أبي. اتهوموننا بالكذب والتّستر على إرهابي....أمهلوني يوما واحدا ليسلّم أخي نفسه. وهدّدوني، إن لم يفعل، بقتل زوجتي وأمي وأولادي.
    لا أعرف، حقا، أين هو أخي. حتى لوعرفت؛ فهل أسلمه لرجال الأمن المجرمين ولكلابهم المسعورة  التي ستعذبه وتقتله؟. ربما فعل ذلك غيري لينقذ نفسه وأهله؛ فالحرب البشعة تجعل  بعضنا جبناء...وبعضنا صامتا، وبعضنا يفقد الرحمة والضمير. لكنْ، هناك من يبقى وفيا مخلصا وشجاعا. وأنا لن أقدم  على أصغر فعل قد يلحق الأذى بأخي.
    في اليوم الثاني جاؤوا. كنت قد طلبت من أسرتي الرحيل ورحلوا كلهم..وهيأت نفسي لمواجهة الشدّة والضرر بصلابة...سألوني عن أخي. قلت: لا أعرف... وبين سؤال وجواب وإهانة وضرب وعنف، ومقاومة؛ حصل مالم يكن في الحسبان، إذ رأيتهم، من بعيد، يجرّون ابنتي الصغرى التي كانت مختبئة خلف البيت..فاجأني وصعقني مشهدها ووجودها... كانت اختبأت لتبقى قريبة مني. ..
والله عمرها لا يتجاوز 14 سنة. مازالت صغيرة. جرّوها أمامي..صرخت بهم كالملسوع..ضربوني بـأرجلهم بعد أن ربطوا يديّ بسياج البيت الحديدي...مزقوا ثيابها وعرّوها بوحشية وكانت ترتعد من الخوف، وتنظر  إلي مذعورة مصفّرة مستنجدة مستغيثة.. عبثوا بها...صارت تبكي وتناديني لأنقذها....وراحت تصرخ من الخوف.. وانا أسترحم  وأتوسل ان يتركوها؛ لأنها طفلة لا دخل لها؛ لكنهم كانوا يتسلّون ويضحكون مني بسخرية مهينة: طفلة.؟ حرية وطفلة؟
 وتفوّهوا بأشياء  قذرة  أمامها وأمامي ...كانت تهرب منهم...تبكي وتتوسل إليهم .... هددوها بالبندقية لتسكت وتكف عن المقاومة، ثم  أحكموا القبض عليها وصرخوا بها لتكف عن البكاء والحركة والصياح...حاولت التملص...فأمسكوا بها، وكانت تتأوه من الألم وتقاوم بشدّة؛ فإذا بهم يمسكون بقدميها، ويطقّون  القدمين الصغيرتين بوحشيّة ويضربوهما بقبضة البندقية...
    وقتها لم أعد أستطع احتمال فظاعة المشهد، وتداعيتُ أمام عجزي؛ فرطمت رأسي بالجدار. رطمته حتى لا اسمع، ولا أرى،  ولا أحس. أوقعوها أرضاً...... اغتصبوها بوحشية..ليس واحدا ولا مرة واحدة...اغتصبوها أمامي..وكانت تصرخ حتى الإغماء.. أنينها  اشتد على صراخي...ثم تهاوى صوتها؛ ليغيب في قلبي وفي ضجيج شتائمهم وشهوانيتهم الحيوانيّة.... وماعدت اسمع أسمع سوى تردد أنفاسها في حلقها بين سعالها  وقيئها....
دارت  الدنيا بي.. لم اعد أسمع صوتها... ولفّها الصمت المخيف.. تمالكت نفسي ونظرت إليها...مازال جسدها ينتفض. في مستنقع وحل ودماء....وقع قلبي مني...واهتز جسدي وأنا اشاهد احتضار ابنتي وموتها الهمجي.
يقولون:"الرجال لا يبكون"، لكن البكاء تساقط حجارة على وجهي وأبكاني بشدة حتى اختنقت أنفاسي..  عادوا إلي.. أنا الذليل المفجوع المقهور ....أصابني الخرس... خرستُ وفقدت القدرة على النطق وأصابني رجفان بلا حدود......ضربوني..ولم يكن لدي صوت لأرد، ولا  عزم لأقاوم...قالوا سنذبحها غدا..إن لم يسلم أخوك نفسه. معك حتى الغد.  أكملوا ضربي وركلي.. وأنا جامد كجثة...ثم تركوني مضرجا بالآلام والمهانة والصمت...
أنظر وأراها ابنتي أمامي..عارية دامية..تنتفض كبقايا دجاجة...لا اقوى على الصراخ. صوتي مخنوق. لا أحد هنا.... حاولت كالمجنون فك القيد من يدي، جاءتني قوة جبّارة لكن القيّد ظل عالقا...ورأيت  أبي من بعيد يزحف بدمائه، كان جريحا. وجهه رمادي بلا ملامح... شاحب كالأموات... كان مختبئا..رأى ابنتي ورآني؛ لكنّه لم يستطع أن يفعل شيئا.. حاول فك قيدي رغم جراحه بسكين، جاهد أوجاعه ليحررني......وأخيرا حررني من القيد...أسرعت لأرى ابنتي حملتها لأنقذها؛ فلعلها  مازالت حيّة... كانت غائبة عن الوعي..
ركضت بها ونسيت أبي..نسيت كل شيء. حتى وجدت أخيرأ من ينقذنا. حملوا عني ابنتي المغطاة بثوب ممزق ودماء، وأخذوها. وساعدوني لأقف وأمشي. لساني مربوط...فلم استطع سرد حكايتي  أو طلب النجدة لأبي.
أصابني هذيان...وغبت عن الواقع أياما... ولما عدت للوعي، سمعت من الرجال أنهم قتلوا زوجتي،  وقتلوا أبي...وأنّ  أمي هربت مع أختي وابنها، بمن بقي من أولادي. هربت إلى المخيمات. أما ابنتي؛ فقد نقلوها إلى من مشفى ميداني إلى مستشفى خارج الحدود... وضعها الصحي حرج؛ لكنْ، لعلّه الأمل بأن تتحسّن....
     الآن لا أشعر بشيء. أحس، فقط، بوجع ابنتي الصغرى. أحس بصراخها، بعجزي عن حمايتها... التأنيب يحاصرني. ألوم نفسي، فانا السّبب. كان عليّ حمايتها. كان علي حماية زوجتي التي قتلوها بالرصاص. كان علي إنقاذ أبي.  كان علي أن أقتل الوحوش قبل أن يفعلوا ما فعلوه بأهلي وابنتي أمام عيني. أنا لا أنسى صراخها. أسمعه في الصّحو والنوم. ولا أنسى صفرة وجه أبي الذي شهد فصول الفاجعة..ولا أنسى  مقتل زوجتي.
    لن ارحمهم. عليّ أن ألاحقهم حتى آخر الدنيا والزّمان. أنا أعرفهم وأتذكر وجوههم كلّها، بكل تقاصيلها. عيونهم الحاقدة، وأشكالهم وأسماؤهم حاضرة كلّها أمام عيني وفي عقلي. سأقتص منهم.  سأثأر لبراءة ابنتي. سأنتقم  من الذين انتهكوا روحها وجسدها واعتدوا عليها، ثم قتلوا أمها وجدّها.
     يقولون لي..."اصبر وانس؛ هم مثل غيرهم من الملايين"... لكن، ليس بيدي؛ فالماضي لا يتركني، بل يرافقني  كظلي، حاضر في كل لحظاتي. أحمل في داخلي جبل النيران. أسير إلى الأمام وعيوني مسمرة على الوراء... وكل الحيوات التي سرقوها مني، تستنفر قواي وعزيمتي لأسير على أقدامي بثبات وسط النيران نحو وكر السفاحين المغتصبين، وعصاباتهم...أحمل بيدي حقدي وكرهي وانتقامي..لأمزّق قلوب الذين تحولوا إلى وحوش وسفاحين وجزارين...لا يعنيني شيء. لا يعنيني سوى حقي والقصاص. ليس لدي حزب. ليس لدي كتيبة. ليس لدي عصابة. ليس لديّ إلا حقي. ليس لدي سوى قضية إنسان مظلوم مكلوم مفجوع خسر في العدوان عليه كل شيء...
كيف أنسى؟
 هل انتظر يوما تقام فيه المشانق عقابا لهم؟
هل أعزّي نفسي بأمل مصالحة؟
وماذا إن فلتوا من حكم المشانق؟ وماذا إن ضاع حق الضحايا؟
حتى لو عاد لي  وطني؛ فقد  ضاع مني أهلي. ويستحيل ان يرجع الميتون.
هل يعود إلى الحياة أحبائي المقتولون المدفنون في التراب؟. هم لن يغفروا عجزي حتى أرد حقّهم لهم.  ولن يشفى  أحبائي المتألمون من عذاباتهم بسرعة وسهولة. ابنتي لن تعود عذراء، ولن تعود كما كانت صبيّة سعيدة مبتهجة. وربما لن تستطيع المشي ولن تستطيع الحركة ولن تستطيع الزواج والشفاء من الجروح الكثيرة.
أخي يقول لي: "لا يمكن الشفاء إلا باستئصال الألم من الجذور"
ويقول لي الطبيب النفسي:"رويدا...رويدا... لابدّ أن تتقبّل الفقدان.. فقدان الأحبة...".
لكني متيقن أن ألف دهر لا يمكن  أن يحمل معه  فرصة واحدة للصفح عن الجريمة، للسكوت عن الثأر ونسيان القصاص؛ فهما الدواء الذي يعالج الفقدان ويداوي ألم الفجائع والمصائب.. وقد يرمّم النسيان.".
لعل...
لعل معجزة تغير مجرى المأساة....تخرج الصامتين عن ذلهم وصمتهم المشين؛ فتشل قوة الظالمين، وتقيّد الوحوش وتقطع أيدي المجرمين. ربما يمكن حينئذ ان تغفر القلوب الخطايا، وتعضّ على الجراح  من أجل يوم أفضل..

د. سماح هدايا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق