قد يسأل القارئ هنا: حسناً، يبدو أن هذه
مقدمة لقصة مؤثرة، ولكن أين هي قصة الحب وأين هو قيس وأين هي ليلى؟ أما قيس فلم
يكن سوى الرجل التسعيني المسجى على سرير المرض، وأما ليلى فلم تكن سوى زوجته التي
كانت في أواخر السبعينيات من العمر، والتي كانت الوحيدة التي تلازمه كظله، فلا تفارقه
ولاتجعله يغيب عن نظرها إلا للضرورة القصوى. كانت قد وضعت سريرها بجانب سريره،
تسهر على راحته وتلبي حاجاته ليل نهار، وحين كان يشتد عليه السعال وضيق التنفس،
كانت لاتعرف طعم النوم لأيام وليال بحالها. وحتى حين كان يتم نقله إلى المشفى لنقل
الدم أو للاسعاف، وهذا ماتكرر عدة مرات، فكانت ترفض أن تفارقه ولا للحظة واحدة،
وتقول أن مكانها دوماً حيث يكون، وذلك بالرغم من كثرة الأطباء الممرضات والعناية
الفائقة بالمرضى هناك.
قد يعود القارئ ليسأل: حسناً، فما ذكرته
إنما يدل على الوفاء والأصالة، ولكن أين هو العشق؟ في أحد أيامه الأخيرة، وفي لحظة
من اللحظات، بدأ الرجل بسعال حاد ومتواصل، فأسرعت زوجته كعادتها وجلست بجانبه على
السرير ووضعت أحد ذراعيها خلف كتفيه وساعدته على الجلوس قليلاً وراحت تربت على
ظهره برفق للتخفف من حدة السعال الذي كان بازدياد والذي بدأ يسبب له صعوبة في التنفس
لدرجة الاختناق. وفعلاً توقف الرجل عن التنفس لثوان ظنت الزوجة خلالها أنه في
طريقه إلى الرحيل، وأنها إنما تودعه الوداع الأخير. ويبدو أنها نسيت للحظات أين هي
وماذا تفعل، فعادت بذاكرتها حوالي الستين عاماً إلى الوراء، وإلى يوم زفافها
بالتحديد حين كان فارس أحلامها الشاب الثلاثيني الوسيم يجلس بجانبها وهي بثوب
الزفاف الأبيض تنظر إليه بطرف عينها نظرة يمتزج فيها العشق بخفر العذارى. مع ذلك
الشاب الوسيم الذي كان حلم فتيات المدينة في حينه، أمضت أجمل سنوات حياتها بحلوها
ومرها وأفراحها وأتراحها وربيا معاً أطفالهما. لم تكد الزوجة تصل إلى هذا الحد من
الذكريات حتى عادت إلى الحاضر، فلاحظت أنها على وشك أن تفقد شريك وعشيق عمرها،
وأنها قد لاتراه بعد اليوم. فما كان منها إلا أن عانقته بكلتي ذراعيها وضمته إليها
بقوة وكأنها تمنع عنه ملاك الموت، وبدأت تناديه باسمه وتناجيه بصوت العاشقة
الولهانة، والدموع تنهمر من عينيها بسخاء: ياحبيبي ياأبو أولادي، إلى أين أنت ذاهب
وتاركني وحدي، ماذا سأفعل بعدك إذا رحلت عني؟ ابقى معي فالحياة لامعنى لها بدونك،
أنت تاج رأسي وعزي ورفيق عمري فكيف تهون عليك مغادرتي؟
ويبدو أن الرجل لم يكن قد حان أجله بعد، وحين
عاد للتنفس وفتح عينيه، تهيأ للزوجة أن حبيبها قد استجاب لندائها وعاد إليها. فتحولت
دموع اللوعة والحزن إلى دموع فرح، وأعادت رأسه ليرتاح على الوسادة وراحت تمسح
دموعها من على وجهه وتقبله على جبينه وخديه. استعاد الرجل وعيه للحظات، وشعر
بحرارة العشق المتمثل بدموع زوجته ونظراتها، فأرسل لها بدوره نظرة العاشق الولهان بواسطة
عينيه كما اعتاد دائماً، كما وأرسل لها قبلة بشفتيه بقدر ماسمحت له كمامة
الأوكسجين التي تغطي فمه، ثم استجمع قوته ورفع لها يده كمن يلقي التحية ويقول لها
أنه يبادلها نفس المشاعر وربما أكثر، ثم عاد ليغرق في غيبوبته.
تكررت ظاهرة العشق الأقرب إلى الخيال هذه
عدة مرات بعد ذلك، لينتقل الرجل بعد يومين إلى العالم الآخر، ولكن ليثبت هو وزوجته
أن العشق لايعترف بسن ولابمرض ولاحتى بعجز، بل وأنه أحياناً قد يفعل المعجزات. ومن
جهتي، فلا أعتقد أن العشق يمكن أن يتجلى بصورة أصدق من تلك، وخاصة بعد ستين عاماً من
الحياة المشتركة ومن ثم على سرير المرض. بالنسبة لي، فمن كان يسمي نفسه عاشقاً قبل
الآن، فعليه بعد هذه القصة (الحقيقية) أن يعتذر ويتخلى عن هذا اللقب لأصحابه.
***
بقلم:
طريف يوسف آغا
كاتب
وشاعر عربي سوري مغترب
الجمعة
30 جماد الأول 1435، 31 آذار 2014
هيوستن/تكساس
http://sites.google.com/site/tarifspoetry
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق