في أواخر عام 2010
انطلق "الربيع العربي" من تونس الخضراء، وما لبثت نسماته العطرة أن عمت
الوطن العربي من أقصاه إلى أقصاه، وقد اصطبغ هذا الربيع العطر منذ انطلاقته الأولى
بالصبغة الإسلامية، ما جعل الحركات الإسلامية مام تحديات كبيرة، في مقدمتها تطلعات
الشعب العربي لهذه الحركات باعتبارها المرشحة لتخليص الأمة من الأنظمة الدكتاتورية،
وتأسيس حالة ديمقراطية بديلة طال انتظارها، ويبدو أن معظم الحركات الإسلامية استعدت
منذ زمن لهذه المرحلة الحرجة، فعمد معظمها إلى خطوات جريئة تمثلت بعدد من التحولات:
-
فقد
أقدمت هذه الحركات على مراجعات واسعة لأفكارها الماضية حول بعض المفاهيم التي
ظلت لوقت طويل موضع شك وريبة من قبل هذه الحركات، منها : الديمقراطية، الدولة
المدنية، المواطنة.
-
انتقلت
هذه الحركات إلى العمل العلني بدل العمل السري الذي اضطرت إليه طويلاً تحت
وطأة القبضة الأمنية التي مارستها الأنظمة الحاكمة عليها طوال نصف قرن أو يزيد .
-
تحولت
هذه الحركات عن المنهج الجذري في التغيير والإصلاح إلى المنهج التدريجي الذي
يراعي معطيات الواقع والفرص المتاحة .
-
تخلت
هذه الحركات عن خيار الانفراد والمقاطعة والمفاصلة على طريقة "أبي الأعلى المودودي"
و "سيد قطب" إلى خيار المشاركة والمخالطة والتعاون مع بقية
الأطياف السياسية والفكرية الراغبة بالعمل لخير البلاد والعباد .
وقد انعكست هذه
التحولات على خيارات كثير من الحركات الإسلامية، فتوجه بعضها إلى تأسيس أحزاب
سياسية ذات مرجعية إسلامية، بعد أن أيقنت استحالة السماح لها بالمشاركة في
العمل السياسي مادامت متمسكة بتكوينها الديني التقليدي، إلا أن هذا التوجه أثار جدلاً
واسعاً في صفوف الحركات الإسلامية، فقد تخوف بعضهم من تفلت الممارسة السياسية
وانحرافها عن الخط الإسلامي الذي يمثل الهدف الأول والأساسي لهذه الحركات، أما بعضهم
الآخر فلم يجد غضاضة في هذا التحول لكنه اشترط أن يظل العمل السياسي تحت وصاية
الحركة، بينما رأى آخرون أن هذا التحول ينطوي على إيجابيات عديدة لكنه رأى ضرورة الفصل
التام بين العمل السياسي والعمل الدعوي، لأن لكل منهما منهجاً يختلف عن منهج الآخر،
فالسياسي يعمل في نطاق ما هو ممكن، بينما تعمل الحركات الإسلامية لتحقيق ما يجب أن
يكون، وبناء على هذا الجدل وهذه المواقف المتباينة برزت على الساحة العربية تجارب
مختلفة :
· فاختار بعض الحركات الإسلامية التحول إلى
حزب سياسي صريح، على غرار الأحزاب السياسية المعروفة، وهذا ما فعلته "حركة
النهضة" في تونس .
· واختار بعضها الآخر تأسيس حزب سياسي
لكنه أبقاه تحت وصايته، أو جعله جناحاً سياسياً للحركة، وهذا ما فعلته جماعة الإخوان
المسلمين في الأردن حين أسست "جبهة العمل الإسلامي"، وفعلته الجماعة
في مصر حين أسست "حزب الحرية والعدالة " .
· واختار بعضها أن يكون الحزب هو الأصل،
والحركة جناح دعوي له، مثلما فعل "حزب المؤتمر الوطني الحاكم" في
السودان .
· واختار آخرون الفصل التام بين الخط الدعوي
والخط السياسي، كما فعل "حزب العدالة والتنمية التركي" الذي له
جذور قديمة مع الحركة النورسية، ومع هذا فقد نصَّ في أدبياته المختلفة أنه حزب
سياسي، وليس حركة إسلامية ولا دعوية، بل لم يتردد في التصريح مراراً وتكراراً أنه
يعمل في ظل القوانين العلمانية .
· واختار آخرون طريقاً مختلفاً، كما فعلت
"حركة التوحيد والإصلاح" التي عقدت شراكة استراتيجية في المشروع
مع "حزب العدالة والتنمية" في المغرب، مع الاستقلال التام في تنظيم
كل منهما، وبهذا استطاع الطرفان تحقيق المعادلة الصعبة التي تجمع بجدارة بين
إيجابيات الحركة الإسلامية من جهة، وإيجابيات العمل السياسي الاحترافي من جهة أخرى،
وقد استكمل الطرفان هذه المعادلة بالاتفاق على التكامل بين مشاريعهما مع المحافظة
على تمايز وظائف كل منهما .
ونعتقد من خلال
متابعتنا لهذه التجارب أن تجربة حزب "العدالة والتنمية" المغربي هي
الأكثر قابلية للنجاح على المدى البعيد، لما تمتاز به من احترافية في العمل
السياسي من جهة، واستعداد من جهة أخرى للتعاون مع مشاريع الجماعات الإسلامية التي
تمتلك رصيداً شعبياً واسعاً، وبخاصة في الوطن العربي الذي يتكون من أغلبية إسلامية،
مع استعداد "العدالة والتنمية" في الوقت نفسه للتعاون مع مختلف التيارات
السياسية الوطنية كما فعل رئيس الحزب "عبد الإله بن كيران" الذي قام
بزيارات متعددة للقيادات التاريخية والشخصيات الوطنية لكل من حزب الاستقلال، وحزب
التقدم والاشتراكية، وحزب الأحرار، والحركة الشعبية، وحزب الاتحاد الاشتراكي
للقوات الشعبية، وبعض الوزراء الذين شغلوا مناصب عليا، فشكل من خلال هذه الزيارات
شبكة علاقات قوية مع مختلف الطيف السياسي في المغرب .
وقد عزز الحزب مكانته
في الساحة السياسية حين فاز بانتخابات 2011 بالأغلبية وحصل على ( 107 مقاعد ) من
أصل 395 مقعداً، وعلى الرغم من هذا الفوز الكاسح فقد اختار عدم الانفراد بتشكيل
الحكومة، وتوجه إلى الأحزاب والفعاليات السياسية المختلفة فأجرى معهم مفاوضات ومشاورات
واسعة على مدى أسبوعين كاملين من أجل تقريب وجهات النظر، وصياغة ميثاق أراده أن
يكون مرجعية للأغلبية في المستقبل كي لا ينفرد أي حزب بالسلطة، وهكذا أثبت الحزب
عملياً انفتاحه على الآخرين، وقدرته على إدارة الاختلاف بطريقة خلاقة، وانتهى
بالبلد إلى تشكيل حكومي متنوع المشارب، أصبح مثالاً يحتذى .
برنامج "العدالة والتنمية" المغربي
:
لقد ظل خصوم الحركات
الإسلامية يتهمونها بافتقارها لبرامج تنهض باقتصاد البلاد وتحقق النهضة المنشودة، واتهموها
كذلك باعتمادها على الوعظ والإرشاد والخطاب الأخلاقي، وووصفوها بالعجز ــ في حال
وصولها إلى الحكم ــ عن تقديم حلول عملية للمشكلات المعقدة التي يعاني منها
المجتمع، وأمام هذه التحديات أقدم "حزب العدالة والتنمية" حين استلم
رئاسة الحكومة على إصلاحات جذرية بدأها بتحرير الأسعار تدريجياً، مع إصلاح صندوق
المقاصة وتحويل أمواله إلى المحتاجين مباشرة، ووقف جميع أشكال اقتصاد الريع، ووقف
مأذونيات النقل والمقالع والصيد في أعالي البحار، وأصدر حزمة من القوانين لتنظيم
هذه المجالات وفتح باب المنافسة الحرة استناداً إلى قواعد قانونية محكمة، مع
الإصرار على تطبيق قواعد الشفافية في تطبيق هذه الإجراءات .
كما فتحت حكومة
العدالة والتنمية ملفات الفساد وحولتها إلى القضاء، وشرعت بعض الإجراءات الأخرى
بهدف تشجيع الاستثمارات الداخلية والخارجية مما ساهم بتخفيف المعاناة الاجتماعية،
منها على سبيل المثال تعديل نظام المساعدة الطبية الذي أصبح تضمن حداً أدنى من
التغظية الصحية للطبقات المحتاجة، ورفع الحد الأدنى للتقاعد، وزيادة منح الطلاب،
وتأسيس صندوق التماسك الاجتماعي، وبهذا أثبتت حكومة العدالة والتنمية أنها تمتلك
برامج إصلاح عملية، وحقيقية، وأنها قادرة على تنفيذ هذه البرامج، على الرغم من
المقاومة الشديدة التي واجهتها من قبل رموز الفساد التاريخيين المنتشرين في كافة
مفاصل المجتمع !
ولم تنس حكومة
العدالة والتنمية ــ في خضم معارك الإصلاح التي راحت تخوضها ليلاً ونهاراً ــ أن تدافع
عن الهوية العربية الإسلامية للمجتمع، وتواجه المحاولات الدؤوبة لفرض قيم
المجتمعات الغربية عليه، ومقاومة الغزو الفرنكفوني للمجتمع، كما وقفت بحزم في وجه
المطالبين بالحرية التامة غير المنضبطة، مثل المطالبة بالسماح لممارسة الجنس خارج
إطار الزوجية، والسماح بحرية الشواذ، وحرية الإجهاض، وغيرها من المطالبات التي
تستند إلى قيم غريبة عن مجتمعاتنا العربية الإسلامية .
العلاقة بين الحزب والحركة :
ويبدو جلياً أن تحقيق
هذه النتائج العظيمة من قبل الحزب جاءت نتيجة الشراكة الاستراتيجية المميزة التي عقدها
مع الحركة الأم "حركة التوحيد والإصلاح"، تلك العلاقة التي تطروت على
مراحل بدأت في عام 1996 حين أيقنت الحركة بضرورة تعزيز فكرة التخصص في العمل، فأعادت
هيكلة الحزب ليتولى عنها العمل السياسي، ولم تدعه في الساحة وحده، بل ظلت إلى
جانبه فانخرطت في عام 1997 في حملته الانتخابية، وخلال عام من تولي الحزب مهماته
السياسية أصبحت الحركة على قناعة تامة بأن العمل السياسي عمل تخصصي يختلف كلياً عن
عمل الحركة التربوي الدعوي، وبناء على هذا اتفق الطرفان على استقلال الحزب
استقلالاً تاما عن الحركة، مع استمرار التشاور وتبادل الرأي بينهما حول القضايا
العامة، لكن دون أن يكون لأحدهما وصاية على الآخر، واستمرت الحركة بدعم الحزب
مادياً وبشرياً حتى سنة 2004 ريثما استطاع تأمين موارده المالية والبشرية فتوقفت الحركة
عن دعمها له، وعندئذ عقد الطرفان وثيقة بينهما تضمنت ثلاثة محددات :
1. إقامة شراكة استراتيجية بين الطرفين، باعتبارهما
شريكين في مشروع إصلاحي واحد .
2. العمل على التكامل بين المؤسستين
لتفادي الاستنساخ والتكرار وإضاعة الجهود .
3. التمايز في الوظائف، ومجالات العمل، والخطاب،
والرموز .
وقد كان الدافع لهذه
الشراكة ما لوحظ قبل ذلك من آثار سلبية للتماهي بين الحركة والحزب ما دفعهما إلى
بلورة هذه الوثيقة التي ميزت بوضوح المسار السياسي عن المسار الدعوي، إذ نصت
الوثيقة على أن الوظيفة الأساسية للحركة هي الدعوة والتربية والتكوين، أما وظيفة
الحزب فهي العمل السياسي الاحترافي، وقد عللت الوثيقة هذا المسلك بأن هناك ممارسة
مباشرة للسياسة وقد أولكت هذه المهمة إلى حزب العدالة والتنمية، وهناك ممارسة
غير مباشرة كما تفعل منظمات المجتمع المدني التي لها دور لا ينكر في السياسة
العامة وفي القضايا الكبرى التي تهم الوطن والمواطن، وهذا الضرب من الممارسة
السياسة غير المباشرة أوكل للحركة التي برعت في أدائه وكانت بذلك سنداً قوياً
للإصلاحات التي اضطلع بها الحزب، فقد أطلقت الحركة مبادرة للإصلاح الديمقراطي، ونظمت
عدداً من المناسبات الاحتفالية للترويج لهذه المبادرة بهدف ترسيخ الحالة الديمقراطية
في البلاد، كما قدمت الحركة إلى اللجنة البرلمانية جملة من المقترحات من أجل
الإصلاح الدستوري، وشجعت الحركة على المشاركة الجماهيرية في الفعاليات السياسية
المختلفة كالانتخابات التشريعية وغيرها .
وامتنعت الحركة
بالمقابل عن أي شكل من أشكال الممارسة السياسية المباشرة، فلم ترشح من قبلها أحداً
في الانتخابات، ولم تتدخل في ترشيحات الحزب ولا في خياراته الانتخابية، وفي عام
2012 حين تسلم الحزب رئاسة الحكومة لم تتدخل الحركة في المفاوضات التي أجراها
الحزب لتشكيل الحكومة، ولم تشارك في الحكومة، ولا في تسمية الوزراء، ولا في
البرنامج الحكومي، وهذا ما أتاح للحركة مجالاً واسعاً لمتابعة نشاطها الدعوي
والتربوي بعيداً عن المماحكات السياسية ومخاطرها ودهاليزها غير المأمونة !
وعلى الرغم من هذه
الحالة الصحية التي استطاع الطرفان تأسيسها بجدارة ما بين العمل السياسي والعمل
الدعوي فإن الجدل لم يتوقف في صفوف كل منهما، فقد رأى بعضهم ضرورة أن تتماهى
الحركة مع الحزب الذي حمل مسؤولية كبيرة بتوليه رئاسة الحكومة، وذلك من أجل إسناده
وتوجيهه وتحصين تجربته وحمايتها من الانحراف، بينما رأى آخرون ضرورة أن تبقى
الحركة على مسافة كافية من الحزب الذي يمكن أن يتعرض لنكسات تعرض الحركة لمخاطر هي
في غنى عنها، ورأى غالبية أعضاء الحركة ضرورة استمرار الحركة في مساندة الحزب في
مشاريعه مساندة غير مباشرة، ودون تماهي، لأن ذلك من مقتضيات الشراكة الاستراتيجية التي
تجمع الاثنين في مشروع إصلاحي واحد، مع المحافظة على تمايز كل منهما عن الآخر واستقلاليته
التامة، مراعاة للاختلاف الجوهري ما بين العمل السياسي وبين العمل الدعوي، ومن أجل
تجنب النكسات التي قد يقع فيها أحدهما فتنعكس آثارها على الآخر .
ونظراً لنجاح التجربة
فقد تشكلت عند الطرفين قناعة قوية بالاستراتيجية التي عملا عليها، ودفعتهما إلى
ترسيخ مبدأ التمايز على مستوى الخطب والقيادة ومجالات العمل، ووجهت أنظارهما إلى
ضرورة الاستفادة من الفرص التي يتيحها الدستور الجديد، وجعلت الحزب أقدر على تنفيذ
برامجه مما عزز مكانته وتحالفاته مع مختلف الفعاليات السياسية والدعوية في البلاد،
أما الحركة فقد أتاحت لها هذه الشراكة أن تتفرغ للعمل التربوي والدعوي الذي
استطاعت من خلاله مساندة قيم الشفافية والنزاهة وتكافؤ الفرص ومحاربة الفساد، مما
عزز مكانتها كذلك في المجتمع، وبهذا استطاع الطرفات تحقيق المعادلة الصعبة التي
فشل في تحقيقها العديد من الحركات الإسلامية والأحزاب السياسية التي انبثقت عنها .
إن تجربة
"العدالة والتنمية" و "حركة التوحيد والإصلاح" في المغرب
الشقيق تجربة مميزة تستحق التقدير حقاً، لاسيما من قبل الحركات الإسلامية والأحزاب
التي بدأت تظهر هنا وهناك في دول الربيع العربي، وربما كان عقد شراكات استراتيجية
بين هذه الحركات والأحزاب على الطريقة المغاربية حلاً عملياً لحالة التصحر السياسي
التي عانينا منها طويلاً، وربما كان في هذه الخطوة إنقاذاً لربيعنا العربي المهدد
بخريف عاصف إذا لم نتداركه في اللحظة المناسبة، فهذا الربيع هو ربيعنا جميعاً، ونحن
جميعاً مدعوون اليوم لأن نمده بشراكات فاعلة تحمله قادرة على التضحية والعطاء .
د.أحمد محمد كنعان
Kanaan.am@hotmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق