عظيم هذا الربيع العربي الذي حلَّ أخيراً في ديارنا العربية بياسمينه
الدمشقي الفواح ، ونسيم نيله الذي يرد الروح ، وزيتونه التونسي الذي يكاد زيته
يضيء ولو لم تمسسه نار، وصحرائه الليبية التي نبت فيها المجاهدون كالنخل باسقات
لها طلع نضيد.
عظيم هذا الربيع العربي الذي جاء متأخراً نصف قرن من الزمان ، لكنه
جاء أخيراً وهو يحمل في سلاله الزهور والورود ، ومواعيد حُب انتظرناها طويلاً .. وبركات
ما لها من نفاد !
وعظيم هذا الربيع لأنه قلب الكثير من المفاهيم العقيمة ، وخلط
الكثير من الأوراق وأعاد ترتيبها بأناقة يحسد عليها ، وطرح رؤية جديدة للعمل
السياسي سوف تكون من الآن فصاعداً أبجدية السياسة العربية .. وربما العالمية أيضاً
!
وعظيم هذا الربيع وعظيمة بركاته التي سوف أقصها عليكم بإيجاز .. أجل
بإيجاز .. لأن الإيجاز هو أول بركات هذا الربيع العربي الذي علمنا أن زمن المقالات
الطويلة والخطب العصماء التي أهدرت نصف قرن من عمرنا قد ولى إلى غير رجعة ، وحلَّ
محله زمن عربي جديد يضبط إيقاعه بالثانية ، لعلنا بهذا الضبط نعوض السنوات التي
ضاعت من عمرنا سدى ما بين السجون ، والمنافي ، ومظاهرات التأييد القسرية ، وطوابير
الاستفتاءات المزورة ، وبرقيات ( سيروا ، ونحن من ورائكم ) !
ولعل من أعظم بركات هذا الربيع العربي أنه هلَّ علينا بعد ثورة
شعبية لم يكن لأي "زعيم" فضل فيها ، وبهذا تجنبنا الوقوع في "زنقة"
الدكتاتورية ، إذ كان قائد الثورة في الماضي يتحول على الفور إلى زعيم أوحد بحجة
أنه هو الذي صنع الثورة ، وأنه هو الذي خلص الشعب من العهد البائد ، ومن ثم فهو
صاحب الحق المطلق في الزعامة ، ليس له وحده ، بل لذريته من بعده .. وإلى الأبد !
ومن بركات هذا الربيع العربي أيضاً ظاهرة "التنسيقيات"
التي قادت الثورة وأسفرت عن هذا الربيع العربي البهيّ ، وهي تشكيلات من تجمعات
شبابية منوعة راحت تعمل معاً جنباً إلى جنب ، بروح أخوية ، وإحساس عميق بالمواطَنة
، من أجل هدف أساسي هو إسقاط الدكتاتورية وإقامة دولة ديمقراطية تعددية يتساوى
فيها جميع المواطنين أمام القانون، فيما كانت الثورات في الماضي تنتهي باستفراد
حزب الزعيم بالسلطة وجعله دون غيره من الأحزاب هو الحزب القائد للمجتمع والدولة !
ومن بركات هذا الربيع العربي كذلك أن هذه التنسيقيات شكلت فرصة
نادرة لاجتماع أطياف مختلفة من الجيل الجديد ليقودوا معاً هذه المرحلة الحرجة من
تاريخ أمتنا العربية ، وهذا ما يبشر بولادة شكل جديد للممارسات السياسية القادمة
تحل فيه هذه التنسيقيات محل الأحزاب ، وإذا ما حدث هذا ـ وهو ما نتمناه ـ فإن
تنسيقيات الربيع العربي سوف تخلصنا إلى غير رجعة من التعصب الحزبي المقيت الذي
دفعنا ضريبته عمراً طويلاً من المعارك الحزبية ، وحوار الطرشان الذي عمَّق الخلاف
في الأمة ، وأسفر عن جروح غائرة في فكرها سوف تحتاج الكثير من الجهد والوقت قبل أن
تشفى !
ومن بركات هذا الربيع العربي أيضاً أن هذه التنسيقيات التي تقود
الربيع العربي سوف تتحول ـ بعد تحرير الأمة من الدكتاتوريات ـ إلى منظمات مجتمع
مدني لتساهم في خدمة المجتمع بأساليب علمية حديثة ، فيخدم كل منها المجتمع في جانب
من الأنشطة ، كأن يتخصص بعضها في الشؤون الاقتصادية مثلاً ، ويتخصص بعضها الآخر بالدفاع
عن حقوق الإنسان ، وبعضها بالتنمية البشرية ، وغير ذلك من الأنشطة الاجتماعية التي
سوف تساهم مساهمة كبيرة في تطور المجتمع وتقدمه .
وكما اتفقنا ، لا أريد أن أطيل في عرض بركات هذا الربيع العربي ،
فهي أكثر من أن تحصى ، وهي أعظم من أن أوفيها حقها في هذه العجالة ، ولكن يكفينا
من هذه البركات أنها شغلتنا بالعمل الجاد والعطاء عن الانشغال بالصراع العقيم على
"الكراسي" !
د.أحمد محمد كنعان
Kanaan.am@hotmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق