الابتلاء والامتحان,
سنة الله تعالى في خلقه, ليميز الله الخبيث من الطيب, والصالح من الطالح, والصديق
من العدو, والشجاع من الجبان, والقوي من الضعيف, والمؤمن من المنافق, وأصحاب المبادئ
من اللاهثين وراء المادة والشهوة, لتبرز ثنائيات, حملة القيم من الأنذال, الثابتين
من المنكسرين المنهزمين, الصابرين من الجزعين.
قال تعالى: (
ألم, أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون, ولقد فتنا الذين من
قبلهم, فليعمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين)[ العنكبوت]
ويبتلى المرء على
قدر دينه, لذا تأتي هذه المحن, في ظلال الأزمة والمأساة, ولو لم يكن الأمر كذلك,
لتساوى الناس, لأنه في الرخاء, تستوي العصي, فلا يتمايز البشر.
فكم من إنسان في
حال الأمن والرخاء, يصول ويجول, يقول ويتوعد, يتحرك لا يعرف الهدوء, نشاطه لا يتوقف,
عطاؤه في ظاهر الأمر لا يهدأ, معينه لا ينضب, فإذا جاءته هبة ريح, انكشف مخبوء
نفسه, فإذا الذي كان الناس يرونه على صورة بطولية ما, يتبين إنما هي صور ورقية,
مغلفة بأغلفة من زينة كاذبة, وألوان براقة, لا تمت إلى الأصالة بصلة, بحال من الأحوال.
تمزقت تلك الصور,
وظهرت حقائق الأشياء على ما هي عليه ( وزال الثلج, وظهر المرج). وهذا من فوائد الابتلاء,
فيعرف المعدن النفيس, من غيره الخسيس, فيصفوا الصف, ولا يبقى إلاّ الخلص الذين
يعول عليهم في صناعة الحياة وبنائها, كما ينقى الذهب عند تسليط النار عليه, فتخرج
الشوائب, وتبقى الأصالة.
وهنا يتداخل معنى
الفتنة, بالمعنى اللغوي, وتكون النتيجة واحدة, من حيث الاصطلاح, وهو ما ذكرناه
آنفاً.
والثورة السورية,
تحقق فيها هذا المعنى بكل صوره وأشكاله, وبرزت معادن الناس على حقيقتها, فإذا بنا-
من حيث العموم- أمام شعب, أثبت للعالم كله, أنه شعب أبيّ لا يرضى الضيم, ولا يبلع
المنكر, ولا يستسلم للباطل, مهما بلغ عتوه, ولا يخضع للطاغوت مهما بلغ فجوره
وطغيانه, شعب يتحمل ويصبر, ولكنه إن قرر,
فستكون غضبتُه غضبةَ حليم.
شعب علم الدنيا
أنه لا ينكسر, يرفع شعار ( الموت ولا المذلة), ويحول هذا الشعار إلى واقع عملي
ملموس, ويضرب أروع الأمثلة, في الصمود والصبر والثبات, رغم أن النظام العدو, ما
ترك وسيلة قهر إلا استخدمها, ولا أسلوب عتو إلاّ مارسه.
شعب أراد الحياة
معرفة لا منكرة, ولجأ إلى الله أن يستجيب لدعائه, بتحقيق هذا العز, ونشر هذا
الفضل, بجهد البشر, وتوفيق رب العالمين- سبحانه وتعالى- ورفعوا لا فتات الجمع(
جمعة الله معنا) و( ما إلنا غيرك يا الله).
هذا من حيث
العموم, أما من جهة التفصيل, فالناس ثلاثة أصناف:
الأول: ذلك النموذج القدوة, الذي ما كان يلقى له بال, ويعيش في الزوايا, بعيداً
عن دائرة الضوء, وبريق الشهرة, فإذا به في هذه المحنة, يبرز كأنه سبع, ظهر من بطين
الغاب, يصول ويجول, يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر, لا يخشى إلاّ الله, يقول كلمة
الحق لا يخاف في الله لومة لائم, ولا عتب عاتب, ولا تخذيل مخذل.
يصمد صمود الأبطال, ويثبت ثبات الرواسي, ينطبق
عليه المثل الدارج
( يا جبل ما يهزك
ريح), وما زادته المحنة إلاّ ثباتاً وتصميماً ومضياً في هذا الطريق اللاحب, الذي امتلأ
بالآهات والأنّات والجراحات والأحزان والدماء والموت, ويذكر في هذا الميدان كثير
من الأبطال, كالشيخ العلامة كريم راجح والعلامة أسامة الرفاعي والأستاذ غسان
النجار, وخنساء سرجة, وأبطال حمص, وأشاوس درعا, ونمور الفرات, وشجعان إدلب,
وصامدوا الشام, وثابتوا الجزيرة, وفرسان حماة, وأسود الساحل, وأبرار حلب, وأوفياء
تل رفعت وعندان, وفي سائر قطرنا الحبيب, من نساء ورجال, وكبار وصغار, شيباً
وشباباً.
الثاني: وقد كشفت هذه الثورة, صنفاً آخر, يمكن أن نسميهم,
المنتظرين, الذين يرقبون الموقف, عن كثب, ولم يقرروا بعد, وهم منتشرون في كل القطر
السوري, وإن كان هناك تفاوت في النسب, من بلد إلى آخر, وهؤلاء نأمل أن يسرعوا
الخطى, ليلتحقوا بهذه الثورة, ويحصلوا على هذا الشرف العظيم, والمتلفت لا يصل.
الثالث: صنف المنافقين والشبيحة والمصلحيين, وهؤلاء ستكون
عاقبتم وخيمة, وهم شر من ظهر في هذه الفترة, منهم حزبيون, وآخرون مخبرون, منهم
علماء دين, ووجهاء اجتماعيون, أظهروا دناءة مرذولة, وخيانة جلية, وسوء خلق من
الدرجة الأولى, ورغالية ينأى أبو رغال عن نفسه بها, تآمروا على الشعب, وكادوا
للثورة, سقطوا سقوطاً مروعاً, سطر التاريخ ذكرهم السيء في ذاكرة الأمة, فكانوا
نماذج سوء, والتاريخ لا يرحم, ورغم هذا فهناك أمل كبير بتوبة بعضهم, وعودتهم إلى
رشدهم, فمن تاب تاب الله عليه, وننصح هؤلاء أن يفعلوا هذا قبل فوات الأمر, وحينها
لا ينفع الندم, ولا عض الأنامل.
- ومما كشفته هذه
الثورة, مواقف دول آزرت الثورة ووقفت إلى جانب الشعب, ودول أخرى كادت ومكرت, أحزاب
وقفت مع الثورة, وأخرى ساندت القتل والطغيان, عمائم شمخت, وعمائم سقطت, رغم
ألوانها الخداعة, مواقف دولية مخزية, ومواقف انتصرت للمظلوم, وتحرك ضميرها.
- وكشفت هذه
الثورة أصالة الشعوب العربية والإسلامية, التي ساندت الثورة, ووقفت إلى جانب الشعب
السوري في محنته, ومطلوب منها المزيد.
شكراً
لك أيتها الثورة المباركة, فقد علمتينا كثيراً من الدروس, وكشفت لنا العدو من
الصديق, أنت أيتها الثورة محك, بين حقائق الناس, وأوضح ما كان مستوراً, ورفع
الغطاء عن وجوه الناس.
إليك
أيتها الثورة شكري وتقديري, لأنك رفعت أقواماً, وخفضت آخرين, وأنت شاهد عدل على ما
عملوا, ومصور خير لما صنعوا, ومسجل أحداث لما فعلوا, وأشهد أنك كنت على الحياد,
وتقفين على مسافات متساوية من كل من ذكرنا, فلم تجاملي, ولم تداهني, ورفعت صوتك
بقول الحق, لا تريدين سواه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق