الشعوب العربية الإسلامية شعوب
حية، تستمد وجودها من قيمها المتأصلة فيها الضاربة جذورها في أعماق
التاريخ.......إنها شعوب تأبى الهوان والذل...شعارها قوله تعالى: (ولله
العزة ولرسوله وللمؤمنين).
صحيح أنها مرت عليها عهود من الانحطاط والتردي
أنزلتها إلى مؤخرة الأمم، وأخرجتها من مسار الحياة الفاعل في تاريخ البشرية...ولكن
كان ذلك بعد عهود من العز استمرت قروناً مديدة... كان المسلمون فيها سادة العالم،
وما أصابهم هذا البلاء إلاّ عندما هجروا منبع عزتهم ومصدر سؤددهم وفخرهم، كما قال
سيدنا عمر- رضي الله عنه – ( نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فإذا ابتغينا العزة في
غيره أذلنا الله ).
إن عزة المسلمين واستعدادهم
للتضحية صيانةً لدينهم وأرضهم وأعراضهم وأموالهم قد أذهلت عقول المستعمرين
الغربيين وقد جاءوها بقضهم وقضيضهم، بجيوشهم الجرّارة وتطورهم العلمي المذهل،
فاستعمروها... وماظنّوا أنهم سيخرجون منها... فلم يهنأ لهم عيش فيها، وقامت
الثورات ضدهم في كل مكان من المغرب غرباً وثورة القائد الهمام عبد الكريم الخطابي إلى
ثورة الأمير عبد القادر في الجزائر وثورة المجاهد الكبير عمر المختار في ليبيا،
مرورا بثورات مصر وسورية والعراق وانتهاءً بثورات المسلمين في شبه القارة الهندية
وأندونسيا شرقاً......بركان من الغضب والثورات ...وسيل من الدماء تدفق لتنال
الشعوب العربية والإسلامية استقلالها من هذا المستعمر الغاصب...ولكن هؤلاء الدخلاء
المسلحين بالعلم والفكر والمعرفة، والحاقدين على أمة الإسلام أدركوا أنهم لن
ينالوا من هذه الأمة ما يريدون إلاّ بعد أن يصيبوها في مقتل في عقيدتها التي هي
مصدر عزتها وسر قوتها والتي لن يخبو نورها وينطفئ لهبها مهما أهالوا عليه من التراب،
وصبوا عليها من آلات القتل والدمار...
وهنا لجأوا إلى الحيلة والمكر
والخداع بالهجوم على الحصن من داخله بأساليب عديدة تجلت فيما يلي :
1- دراسات المستشرقين التي أمعنت
تخريباً وتدميراً وتشكيكاً في عقائد الإسلام وتاريخه الناصع الوضاء.....
2- إبهار المسلمين بتقدمهم العلمي
وحضارتهم الأخاذة، واستلاب قسم من أبناء المسلمين إلى جانبهم ليكونوا عوناً لهم في
تأصيل النموذج الغربي في أرض الإسلام.
3- محاربة أهل الإسلام بأهل
الإسلام، فأشد عدوٍ للمرء من جنسه....فشغلوا المسلمين بخلافاتهم الداخلية، وأوجدوا
لشعوب المنطقة خصوماً من أنفسهم من العلمانيين والتحريريين والتنويريين....واتكأوا
في ذلك على الأقليات من كل مذهب وملة... ولم يخرج الغرب المستعمر من بلادنا إلاّ
بعد أن وطّأ لأنصاره وأعوانه الطريق إلى السلطة، ممن انسلخوا من تراثهم وحضارة
أمتهم، واتخذوا من الغربيين منارة ونبراساً يهتدون به.
وكم يتألم المرء وهو يتأمل أحوال
شعوبنا العربية المسلمة التي ضحت بالغالي والنفيس، وقدمت ملايين الشهداء لكي تنال
حريتها وكرامتها واستقلالها ...وإذا بثوراتها تسرق منها ويتسلط عليها من لا يخاف
الله، ولا يرعى لشعوبها إلاّ ولا ذمة، ويحكمها بالنار والحديد...وتدخل شعوبنا بذلك
عهداً جديداً من الاستعمار الحديث..وهو أن تحكم من المستعمر القديم ولكن بأيدي
أبنائه ممن باعوا دينهم وضمائرهم، وسلموا البلاد والعباد بأبخس الأثمان...وكان على
شعوبنا أن تعيش نصف قرن في أجواء هؤلاء الحكام الذين همّشوها وصادروا منها حرية
القول والعمل... وعاثوا في الأرض فساداً......إلى أن هبت رياح العزة من جديد، فقامت
الشعوب المقهورة ثائرةً منتفضةً تفك أغلال الذل والهوان، وتطلب حريتها بعون رب
الأرض والسماء.
إنها معركة التحرير الثانية من
رواسب وذيول المستعمر الأول، نحن على أبواب عالم جديد تصنعه شعوبنا العربية بالعرق
والدماء...وثورات الربيع العربي انطلقت من تونس كحبات الخرز، ما إن نجحت أول حبة
منها في إسقاط الطاغية الأول بن علي حتى تتابعت أخواتها ...واقتحمت أعتى أركان
الطغاة في أرضنا الحبيبة سورية .....وهاهو قد مضى على عمر ثورتنا ثمانية أشهر
وشعبنا ينفق الغالي والرخيص من أجلها .. ولا يرضى بأقل من النصر الكامل على النظام
الأسدي وكل من سانده من أنصار وأتباع.
ووسط أصوات المدافع وهدير الشعب
الثائر ترتفع الأصوات النَّشَاذ من هنا وهناك، بعضها يشكك في الثورة وأهدافها،
ويرفض المشاركة فيها ...وبعضها ينادي بأنصاف الحلول من دون اقتلاع أصل الفساد من
الجذور...وبعضها يحاول أن يجردها من مصادر قوتها وعزتها، ويشكو من سمتها الإسلامي
الأصيل، ويشكك في شعاراتها الإسلامية وخروج الثائرين من مساجدها....وهنا نطرح عدة
تساؤلات على عموم شعبنا الثائر بشكل عام وعلى الناشطين السياسيين على أرض الميدان
بشكل خاص :
1- ما السبيل كي نصون هذه الثورة
المقدسة، ونحميها من الانحراف عن أهدافها التي نادى بها شعبنا؟؟
2- كيف نحفظ محراب الثورة مصوناً
في توجهه أولاً وأخيراً إلى رب الأرض والسماء؟؟
3- كيف نحمي ثورتنا من أيدي
المتسلقين والعابثين والوصوليين؟؟
لا أشك في وعي أبناء ثورتنا
العظيمة، ولكن ما سأذكره الآن هو إضاءات على الطريق من باب التذكير لعلها تسهم في منع
تكرار النموذج الأول الذي أسهبت في شرحه، فكانت شعوبنا في ذلك الأوان كالمستجير من
الرمضاء بالنار، أقول وبالله التوفيق:
1- الإخلاص لله في القول والعمل،ومن
كان الله معه فسيهديه بإذنه إلى الحق والنصر المبين.
2- الفهم والوعي لكل التيارات
والمذاهب المختلفة التي تتحرك في الساحة داخلاً وخارجاً، إن أبناء الثورة هم سياجها
وحصنها الحصين، ووعيهم وفهمهم لما يدور حولهم سيعصمهم بإذن الله من الفخاخ التي
تنصب لهم، والمؤمن كيِّسٌ فَطِن ينظر بنور الله...
3- الثبات على الموقف مهما كانت
التضحيات، لأن هذا الثبات هو الذي يستجلب نصر الله، وهو الذي سيغير مواقف البشر، ويأسر
القلوب ويشدها إلى نصرة الشعب وثورته، وما الشجاعة إلاّ صبر ساعة، ولن يضيع حق
وراءه مطالب.
4- الإصرار على أن يتسَّيد الموقف
من ضحّى في هذه الثورة بكل ما يملك من جهد ومال وأبناء، وتخلى عن مباهج الدنيا وتبنى
أهداف الشعب، وحمل الراية بقوة، وتقدم الركب لا يبالي بالمخاطر والأهوال إلى أن
يوصله الله إلى إحدى الحسنيين النصر أو الشهادة...
5- الاهتمام بالجانب المعلوماتي
والأمني للثورة فهذا يفضح الأشخاص ويكشف النوايا المبطنة، وينقّي الثورة من الخبث
الذي ألّم بها ...ويقطع الطريق على المتسلقين والانتهازيين والنفعيين ..ممن ركب
الموجة أو ساير النظام لأهداف دنيوية رخيصة.
ثقتي كبيرة بأبناء الثورة، في حرصهم
وفهمهم واستعدادهم لفداء هذه الثورة بالمهج والأرواح، وهم على غير استعداد بعد
أنهار الدماء التي سالت في أرضنا الحبيبة أن يتسلم الراية إلاّ من هو أهلٌ لها ممن
يناضلون من أجل أن تكون سورية حرة عزيزة أبية لا تركع إلاّ لله وحده....وتأبى إلاّ
أن تكون الدولة المدنية الراشدة التي تلقي بظلالها الوارفة على جميع أبنائها من كل
صنف ولون ، وينهمر غيثها الوفير على الجميع دون تمييز أو إقصاء أو استئثار.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق