انتشر المذهب الإباضي في بلاد المغرب الإسلامي، فقد
كان ظهورهم بإفريقية في أوائل القرن الثاني في عهد هشام بن عبد الملك الذي جدد عهد
أبيه وأسلافه الأولين بالتزامه سياسة الشدة في مطاردة الخوارج والشيعة وملاحقتهم
بالتقتيل والإبادة، ولعل أول داعية إباضي قدم هذه البلاد فاراً من قبضة ملاحقيه هو
سلمة بن سعد، الذي عرف كيف يتنقل بالبلاد، وأي الشعاب يسلك حتى يأمن ظلم الظالمين،
ويضمن لعمله التوفيق ولرسالته الانتشار، فاختار الطرق الجبلية البعيدة عن الصحراء
القاحلة وأهوالها، وعن المناطق الساحلية الخاضعة لسلطة الولاة، وجبال نفوسة ودمر
ونفزاوة وما والاها من المرتفعات والجبال، وكلها مناطق آهلة بالسكان، كثيرة
العمران..أمكن له أن يستقر ويقوم في صفوف البربر بالدعوة، موضحا للأذهان الصورة
الصحيحة للإسلام – كما يتصورها - في الاعتقاد والعبادة والمعاملة، وهي غير الصورة
التي شهدها الناس في الحاكمين وأتباعهم في ذلك الوقت، فالتفَّ من حوله الناس
مستجيبين لدعوته، وراحَ يتنقل من مكان إلى آخر، وما ارتحل من موضع إلا خلَّفَ فيه
أتباعا.. تكاثروا مع مرور الأيام والأعوام حتى صار لهم شأن، وأضحوا يمثلون قوة يحسب
لها ألف حساب.
وشاءت الأقدار
أن تنقرض الإمامة الإباضية من طرابلس فأصبحت تاهرت مركز الإمامة، وكانت أغلبية
بلاد إفريقية في الجنوب والوسط تابعة لهذه الإمامة، وكان عمال الدولة الرستمية
يقيمون أحكام الله في تلك البلاد نيابة عن الدولة الرستمية.. وقد استمرت هذه
الجهات تحت حكم الدولة الرستمية إلى أن تغلبت عليها الدولة العبيدية (الفاطمية)
فخربت تاهرت، وانقرضت من هنالك سلطتها.. من هذا نفهم أن كثيرا من أهل إفريقية من
سكان المناطق المذكورة كانوا يدينون بالولاء إلى السلطة الإباضية بتاهرت، إما ولاء
سياسيا، أو ولاء مذهبيا، إلى أن قامت الدولة العبيدية.. ثم استمر ولاؤهم بصفته
المذهبية الدينية، إذ إن سكان الجنوب من إفريقية وإن لم تقم لهم دولة، فقد كانوا
تحت نفوذ مشايخ العلم والعزابة من الإباضية، لذلك كانوا كأنهم يمثلون دولة لها
سيادتها ولها تنظيمها الإداري والديني، واستقلالها الذاتي طوال الدولة الأغلبية
وما قبلها بقليل وما بعدها.
أما بالنسبة للتواجد الإباضي في دول المغرب العربي
شمال إفريقيا، فيعود إلى أن الإباضية أرسلوا- منذ بدايات أمرهم- دعاة إلى المغرب
لنشر الدعوة منهم الشيخ سلامة بن سعد- من أهل البصرة ومن مشايخ الإباضية في القرن
الهجري الثاني- فنجح بعد عشرين سنة في تكوين جماعة معتبرة من الإباضيين في طرابلس
الغرب، يتزعمها رجل يدعى عبد الله بن مسعود التجيبي، الذي آزرته قبيلة هوارة التي
اعتنقت المذهب الإباضي، ثم تبعتها قبيلة زناتة في شرق طرابلس، ونفوسة في الجبل-
ويحمل إلى اليوم اسم جبل نفُّوسة- وبفضل القبائل البربرية انتشر المذهب الإباضي في
شمال إفريقيا، ولا يزال يوجد إلى اليوم في قبائل تسكن الصحراء في جنوب ليبيا
والجزائر- بني ميزاب في تيهرت- ويسمون بإباضية المغرب.
ولا يزال أتباع هذه الفرقة يعيشون إلى يومنا هذا في
سلطنة عُمان، ويشكلون أغلبية المسلمين فيها، وهي-بالمناسبة- الدولة المسلمة
الوحيدة التي يشكلون الأغلبية فيها، كما أنهم يوجدون في مناطق من شمال إفريقيا مثل
جبل نفوسة جنوب ليبيا، وجزيرة جربة جنوب تونس، وفي ورقلة ومزاب من بلاد الجزائر،
وأقلية في تنزانيا وبوروندي ورواندا في شرق إفريقيا. وسبب انتشارهم في عُمان يعود
إلى أن الإمام جابر بن زيد الأزدي العماني، ركز- منذ البداية- دعوته على قبيلته "أزد"
العمانية، فوجَّه إليها كل عنايته، وبحكم مركزه بين أقاربه فإنه لم يلقَ صعوبة في
إقناعهم، وهكذا انتشر المذهب بين أهل عُمان منذ ذلك الزمن القديم، وبقي فيها، ولا
زال هو المذهب الرئيسي لأهلها إلى يومنا هذا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق