الصفحات

تنويه

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الرابطة والمشرفين عليها.

Translate

2014-12-12

ثورات الربيع العربي والثورة العربية الكبرى هل حيكت من نفس القماشة؟ - بقلم: طريف يوسف آغا

كنت قبل أيام أقرأ حول ماسمي في حينه بالثورة العربية الكبرى (1916)، وذلك من حيث أسبابها ومسارها ونتائجها، فوجدت نفسي تلقائياً أسقطها على ثورات الربيع العربي، ووجدت تشابهاً لايمكن أن يخفى عن أحد في الأسباب والمسارات، فهل تكون النتائج متشابهة أيضاً؟
     دعونا هنا لاننسى أطماع الغرب في البلاد العربية منذ فجر التاريخ، فاليونان الاغريق مروا من عندنا قبل الميلاد ومكثوا لبعض الوقت، ليتبعهم الرومان الذين جعلوا حوض المتوسط بحيرة رومانية، لتتبعهم الحملات الصلبيبية في القرون الوسطى وآخرها حملة نابليون في نهاية القرن الثامن عشر. طبعاً استعملت في المقدمة تعبير (ماسمي في حينه بالثورة العربية الكبرى) لأن التاريخ وثق فيما بعد أنها لم تكن في الواقع سوى مؤامرة بريطانية- فرنسية على العرب لالحاق سورية الكبرى والعراق بباقي المستعمرات العربية لهاتين الدولتين في شمال إفريقية. العدو اللدود لهما خصوصاً وللغرب عموماً  في ذلك الوقت كان يتمثل في الدولة العثمانية والتي كانت في مرحلة الاحتضار ويطلق عليها اسم (رجل أوربا المريض). ولكن وبالرغم من ذلك، فقد فضلت كلتا الدولتين الاستعماريتين حينها عدم مواجهة العثمانيين مباشرة على الأرض توفيراً للخسائر البشرية والمادية، وفضلتا تطبيق المثل الشعبي القائل (يللي عندو عشي، لايزفر يديه). أما (العشي) فلم يكن سوى العرب وقيادتهم في الحجاز المتمثلة بالشريف حسين وأبنائه.


     طبعاً لم تأت هذه الثورة من العدم، أي أن (مكماهون)، المندوب البريطاني في مصر والذي أقنع شريف مكة (حسين بن علي) باشعال الثورة، لم يتصل به ذات صباح ليقول له: عمت صباحاً (شريف حسين)، مارأيك باشعال الثورة؟ فظلم العثمانيين كان حينها قد فاق الاحتمال، وخاصة بعد أن قامت (جمعية الاتحاد والترقي) التركية بالانقلاب على السلطان (عبد الحميد الثاني) عام 1909. حيث بدأ بعدها العمل على تطبيق سياسة (التتريك) اتجاه الشعوب الواقعة تحت نفوذ السلطنة، ومنها عرب سورية والعراق، وهي سياسة قومية تمنع استعمال اللغة الأصلية في البلاد وتستبدلها باللغة التركية حصراً وكذلك الأمر فيما يتعلق بالعادات والتقاليد، وتعاقب الرافضين بالسجن والتنكيل. كما وتم تجنيد الشباب العرب بعد قيام الحرب العالمية الأولى في حملات خارجية مثل حرب (السفر برلك) عام 1915 للقتال إلى جانبهم وجانب حلفائهم الألمان. وقد وعد الانكليز (الشريف حسين) إذا ماثار على العثمانيين وأخرجهم من سورية أن يوافقوا على حكمه لكافة الدول العربية الآسيوية، علماً بأن الانكليز كان لهم موطئ قدم في العراق منذ عام 1914. وبالفعل خدع (الشريف حسين) بهذه الوعود، ولم يسأل نفسه حينها (لماذا ستفي دولة عظمى مثل انكلترا بوعودها لمجموعة من البدو وتسمح لهم بحكم هذه المنطقة الهامة من العالم ولاتحتفظ بها لنفسها؟)
     كلفت بريطانيا ضابط مخابراتها (إدوارد لورنس) الذي عرف فيما بعد بلقب (لورنس العرب) بتقديم خدماته لمساعدة (الشريف الحسين) في قيادة القبائل لاجلاء العثمانيين من الجزيرة العربية وسورية الكبرى (سورية ولبنان والأردن وفلسطين). وقد لعبت شخصية (لورنس) الكارازماتية والقيادية دوراً هاماً في الانتصار على العثمانيين وإجلائهم عن المنطقة، حيث بدأت الأعمال القتالية في حزيران 1916 من مدينة جدة لتنتهي بالسيطرة على كامل سورية في ايلول عام 1918. ولكن حدث خلال ذلك أن منحت بريطانيا عام 1917 (وعد بلفور) لاقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، كما وتم في نفس العام الكشف عن معاهدة (سايكس- بيكو) البريطانية الفرنسية لتقاسم سورية الكبرى والعراق بينهما، ضاربة بالوعود البريطانية للعرب عرض الحائط ومكرسة لواقع جديد يختصر بمقولة (الحكم للأقوى). والجدير بالذكر هنا أيضاً أن فرنسا نفسها كانت تعد العدة، ولكن من تحت الطاولة، وبالتنسيق مع حليفتها لاقامة (الدولة العلوية) في سورية لتكون عوناً للدولة اليهودية وتكون الاثنتان رأسي حربة لأوربة في المنطقة. وقد أشار المندوب الفرنسي في الأمم المتحدة لتلك الصفقة في مواجهته الشهيرة مع (الجعفري) سفير نظام الأسد في صيف عام 2012، وكانت مواجهة بمثابة (لاتطول ولاتئصر، حارتنا ديئة ومنعرف بعض). وبالاضافة لما سبق، فقد قامت الدولتان الاستعماريتان خلال تلك الفترة أيضاً بمنح أجزاء من الدول العربية لدول الجوار لمصالح مشتركة، حيث وافقت انكلترا على احتلال إيران لامارة (الأحواز) العربية عام 1925، وسلخت فرنسا (لواء الاسكندرون) عن سورية ومنحته لتركيا عام 1939. كما وقامت انكلترا بفصل السودان عن مصر خلال فترة احتلالها للبلدين في ذلك الوقت، مما أدى لاحقاً لصراعات سياسية بين الاخوة.
     إذاً لم تكن (الثورة العربية الكبرى) سوى مؤامرة بريطانية- فرنسية لطرد العثمانيين واحتلال المنطقة،  مستغلة الغضب العربي ضد الأتراك من جهة وكذلك أحلام العرب بالحرية من جهة ثانية، ولكن أيضاً تخلفهم وقصر نظر قيادتهم، لتقوم بتقسيم الدول إلى دويلات وإقامة الدولتين اليهودية والعلوية، وكذلك لتأسيس أنظمة حكم ديكتاتورية في بقية الدول تكون تابعة لها بالسر أو العلن تغنيها عن إبقاء جيوشها والكلف المترتبة عن ذلك. ولكن وحين تضع الدول الاستعمارية خططاً كهذه، فهي أيضاً تضع لها فترة زمنية محددة تقوم بعدها بالبدء بالمرحلة اللاحقة، ويبدو أن مرحلة المئة عام (مابعد الثورة العربية الكبرى) قد انتهت وبدأ الغرب بمرحلة جديدة تم التبشير بها بنظريتي (الشرق الأوسط الجديد) و (الفوضى الخلاقة) واللتين تم الاعلان عنهما قبل عدة سنوات. ويبدو أن اللاعبين الأساسيين مازالوا أنفسهم: انكترا وفرنسا، وانضمت إليهما أمريكا بعد الحرب الثانية، كالمخطط والمنفذ، وروسيا كحليف وأيضاً بائع للسلاح، وإيران وإسرائيل كسارقي للاراضي العربية بموافقة الغرب ضمن تفاهمات علنية أو سرية، وأخيراً تركيا كعدو تاريخي للجميع.
     طبعاً لم يأمر الغرب (محمد البوعزيزي) أن يحرق نفسه ليقوم هذا الغرب بعد ذلك بتحريض شعوب المنطقة على البدء بثورات الربيع العربي في نهاية عام 2010. فان (البوعزيزي) لم يكن أول من انتحر من العرب بسبب القهر والظلم والفقر، ولن يكون الأخير، ولكن التوقيت كان هو العامل الأهم فيما جرى وتوجيهه فيما بعد. إذاً الأسباب متشابهة حيث أن (الغضب) كان متوفراً هنا أيضاً، ولكن ليس ضد العثمانيين هذه المرة، بل ضد الحكم (الوطني) الاستبدادي، مع فارق أن وحشية الحكام العرب سبقت وحشية أي محتل أجنبي عرفه العرب في تاريخهم القديم والحديث، والتي لا يقارن بها سوى الغزو المغولي والحملات الصليبية. كما أن (الرغبة بالحرية) توفرت أيضاً، ولكن ليس من الدولة الجارة، ولكن من (القائد الأبدي) ابن البلد الذي أعطى نفسه مكانة تقارب مكانة الرب في أغلب الحالات، وتطابقها حرفياً في الحالة السورية. كما أن (الجهل والتخلف) الذي كان يحكم الشعوب العربية قبل قرن من الزمان نجده مازال هو السائد بين شرائح واسعة من هذه الشعوب والتي مازالت تتبع قوانين القبيلة والعشيرة قبل أي شئ آخر، وهذا ماجعل تلك الشعوب (تعتقد) بأن التخلص من حكامها هو الهدف الأول والأخير وبالتالي فعليها أن تركز عليه، وصدقت أن الغرب سيساعدها لتحقيق ذلك لأنه يشاركها بحبه للحرية، دون أن تسأل نفسها لماذا؟ وهذا هو نفس الخطأ الذي وقع فيه (الشريف حسين) قبل مئة سنة. أخيراً نأتي إلى سؤال (من لعب دور لورنس العرب في حالة الثورات الحالية؟). برأي الشخصي أن تكنولوجيا الاتصالات، من موبايل وفيسبوك وتويتر وكاميرات وغيرها، هي التي ساعدت الشباب العربي وقادته لتحقيق الانتصارات (المؤقتة) على أنظمته الديكتاتورية، وأقول (المؤقتة) لأننا كلنا رأينا ماحصل في مصر واليمن ويحصل في ليبيا وسورية ومؤخراً في تونس. فثورة الاتصالات، والتي هي منتجاً غربياً صرفاً، هي التي أتاحت لثورات الربيع العربي انجاز ماأنجزته في البداية، تماماً كما فعل (لورنس العرب)، الذي كان منتجاً بريطانياً صرفاً والذي يجمع المؤرخون أن الثورة العربية الكبرى ماكانت لتنتصر بدونه. ومن سخرية تشابه الأمور أن (لورنس) توفي عام 1035 وهو يؤكد بأنه لم يكن على علم بأن حكومته كانت تستخدمه لخديعة العرب، تماماً كتنولوجيا الاتصالات التي ليس ذنبها أن الغرب قدمها للشباب العربي ليحقق بها ماحقق.
     إذاً الأسباب والمسارت متشابهة في حالتي (الثورة العربية الكبرى وثورات الربيع العربي)، وهنا يطرح السؤال الأهم: ماهي النتائج التي يطمح إليها الغرب من تلك الثورات فيما إذا كان هو ورائها من حيث الدعم والتسيير؟ الجواب واضح للعيان، فهدف الغرب الذي لم يتغير هو إحكام سيطرته ونفوذه على هذه المنطقة لما تتمتع به من أهمية اقتصادية وتاريخية وجغرافية. وهو بعد أن قسم المنطقة ومنح وسلخ أجزاء منها، عاد ليقسم المقسم ويفتت المفتت، وفي هذا بطبيعة الحال تكريساً لسيطرته ونفوذه. فها هو قد قسم لبنان بعد الحرب الأهلية إلى كانتونات دينية تحت وحدة وطنية هشة، وقسم العراق إلى فيديرالتين وثلاثة أقسام طائفية وسلمه لايران، كما تغاضى عن احتلال الأخيرة لجزر الامارات، وقسم السودان إلى دولتين مستقلتين، ويعمل على تقسيم سورية واليمن وليبيا. كما أنه قد خلق أوضاعاً سياسية أو جغرافية أو طائفية في كل دولة عربية لتكون على عداء مع جاراتها كالعداء بين الجزائر والمغرب حول الصحراء الغربية وبين تركيا وسورية والعراق حول نهر الفرات وبين العراق والكويت حول حقول البترول الحدودية وبين اليمن والسعودية حول ترسيم الحدود وبين ليبيا ومصر حول الخط السياسي وغير ذلك. وحين يظهر الغرب بمظهر المتعاطف مع تلك الثورات والمؤيد لحق الشعوب بالحرية والديمقراطية، إنما يكون كمن (يدس السم في الدسم)، فبعد أن يتم تقسيم المقسم وتفتيت المفتت، يعود ليقول لشعوب المنطقة: لقد وقفت معكم في ثوراتكم ضد الحكام المستبدين، ولكن توجد هناك حدود لما كان بامكاني تقديمه لمساعدتكم. أما الآن فأفضل مايمكنكم الحصول عليه هو القبول بالأمر الواقع الجديد (النكبة) ودعونا نبدأ باعادة الاعمار ونسيان الماضي والتركيز على المستقبل. وطبعاً لامانع للغرب في هذا المسار من إحالة بعض عملائه (العجائز) على التقاعد واستبدالهم بمجموعة من الشباب تمتص غضب الشارع وتقوم ببعض الاجراءات التجميلية على أن تحافظ على جوهر المسار العام للنظام السابق الموالي لها.
     يقول البعض: لاتلوموا الغرب، فهو يعمل لمصلحته، بل لوموا أنفسكم كشعوب رضيت بما فرض عليها! هذه مقولة الهدف منها تمييع الحقيقة، فالغرب إنما فعل ذلك بهدف اللصوصية، أي لسرقة ثروات هذه البلاد، وهناك فارق بين من يعمل لمصلحته ومن يسرق غيره. ومن جهة ثانية، فكيف تتوقع من شعوب متخلفة خارجة لتوها من حكم عثماني استمر لخمسة قرون أن (تنتبه) لما كان يحاك لها حينها؟ وكيف تتوقع اليوم من نفس الشعوب التي عمل حكامها الطغاة والعملاء قصارى جهدهم لنصف قرن ليبقوها غارقة في التخلف ومحكومة بالفقر والحديد والنار، أن تعي مايهدف إليه الغرب من الثورات الحالية؟ وبما أن التخلف هو الحاضنة الشعبية للديكتاتور، فيبدو أنه قبل أن تمر شعوبنا بنهضة علمية وثقافية وتنويرية شاملة، بما في ذلك الريف قبل المدينة، فلن تكتب الحياة الطويلة لأي ثورة في المستقبل، وسيبقى الجلادون واللصوص والعملاء، أو في أحسن الأحوال المخدوعون، هم من يخلفون بعضهم البعض في قصور الحكم في بلادنا. وإلى أن يحصل ذلك، فان الاحتفال بسقوط أي ديكتاتور اليوم سيبقى المقدمة للاحتفال بقدوم ديكتاتور آخر.
***
يسمح بنشرها دون إذن مسبق
بقلم: طريف يوسف آغا
كاتب وشاعر عربي سوري مغترب. هيوستن / تكساس
عضو رابطة كتاب الثورة السورية
الاثنين 16 صفر 1436، 8 كانون الأول 2014



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق