الصفحات

تنويه

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الرابطة والمشرفين عليها.

Translate

2014-12-24

غزوة الرجيع – بقلم: الدكتور عثمان قدري مكانسي

في السنة الرابعة للهجرة، وفي شهر صفر منها، جاء رهط من قبيلتي عُضَل والقارة، أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر، يريدون أن يظفروا ببعض المسلمين أسارى ليبيعوهم إلى مشركي مكة فيقتلهم هؤلاء بقتلاهم في أحد فقال هؤلاء الرهط للنبي صل الله عليه وسلم: يا رسول الله إن فينا رغبة في الإسلام، فقد بدأت بيوتنا يفشو فيها هذا الدين الحديث، ولا نعرف شيئاً عنه، فابعث لنا نفراً يفقهوننا في الدين، ويقرئوننا القرآن.
كانت هذه الكلمات منهم عرضاً رائعاً، حفز النبي صلى الله عليه وسلم  – وهو سيّد الدعاة – على أن يرسل إليهم بعض الفقهاء الشباب، يعلمونهم دينهم، ويرشدونهم إلى سنّة نبيهم، والشباب عدّة المستقبل وبُناته، وعلى همتهم تقوم أركانه، فاختار ستة وأمّرَ عليهم عاصم بن ثابت، فانطلقوا معهم إلى نجد – مكان إقامتهم -.

فلما كانوا بالهدأة وهي بلدة بأعلى مرِّ الظهران، ظهر الغدر في عيون أولئك الرهط، وقاموا يريدون أسرهم، فلما علموا أنهم لا يقدرون عليهم استصرخوا عليهم حياً من هذيل، فبعثوا لهم مئة رجل، فالتجأ المسلمون إلى جبل، واعتصموا فيه، فلما رأى المشركون أن لا سبيل إلى هؤلاء النفر الستة استنزلوهم وأعطوهم الأمان، وأقسموا أن لا ينالوهم بسوء، فقال عاصم: والله لا أنزل على عهد كافر، فالكافر لا أمان له ولا ذمّة، وصعّد نظره في السماء وقال: اللهم بلّغ عنا نبيّك أنّا نموت على دينك وأنه أدى الأمانة وبلغ الرسالة ونصح الأمة فعليه منك الصلاةُ والسلام، وكان على رأيه اثنان آخران هما مرشد بن أبي مرشد، وخالد بن البَكير، فقتل عاصمٌ ومرشد وخالد.
واستأسر بعد ذلك خبيب بن عدي، وزيد بن الدثِنَّة ورجل آخر هو عبد الله بن طارق، فلما أسروهم، أظهروا الغدر كعادتهم وربطوهم بالقسيّ، فقالوا لهم: أين العهد والذمّة، فقال المشركون: لا عهد لكم ولا ذمة، وصدق الله العظيم حين وصف المشركين قائلاً: "  لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ " وساقوهم إلى مكة، أما عبد الله بنُ طارق فلم يرضَ المسير، وتمنّى لو قتل مع الشهداء الثلاثة، واستمكن في الأرض، فدفعوه، فلما يئسوا منه وضعوا السيف في صدره فلحقت روحه بإخوانه الثلاثة إلى بارئها.
وأراد هؤلاء القتلة أن يحزّوا رأس عاصم ليبيعوه من سلافة بنت سعد، وكانت نذرت أن تشرب الخمر في رأس عاصم لأنه قتل ابنَيْها في غزوة أحد، فجاء النحل بأعداد هائلة يطنُّ حوله، فما استطاعوا الوصول إليه، فقالوا: دعوه إلى المساء فيذهب النحل، فنأخذه، فبعث الله تعالى سبيلاً احتمله، وكان عاصم عاهد الله أن لا يمسّ مشركاً، ولا يمسّه مشرك، فمنعه الله في مماته كما منعه في حياته.
وأما خبيب فقد اشتراه بنو الحارث بن نوفل، وكان خبيب هو الذي قتل الحارث في "أحد" فأخذوه ليقتلوه به، فبينما خبيب عند بنات الحارث استعار من إحداهنّ موسى يستحدُّ بها، فاقترب منه طفل صغير فجلس على فخذ خبيب، والموسى في يده، فصاحت المرأة خوفاً على صغيرها أن يقتله خبيب، فقال لها: أتخشين أن أقتله؟ إن الغدر ليس من شيمة المسلمين وليس من شأنهم الغدر بالآخرين، وأعاده إلى أمه، فكانت هذه المرأة تقول: ما رأيت أسيراً أخيرَ من خبيب، لقد رأيته، وما بمكة ثمرة، وإن في يده لقِطفاً من عنب يأكله، ما كان إلا رزقاً رزقه الله خبيباً.
فلما خرجوا من الحرم ليقتلوا خبيباً قال: ردّوني أصلي ركعتين، فتركوه فصلاهما، فسن سنة حسنة لمن يقتل صبراً أن يصلي ركعتين.
ثم قال: لولا أن تقولوا جزع لزدت، وقال أبياتاً منها:
         ولست أبالي حين أقتل مسلماً   على أي جنب كان في الله مصرعي
         وذلك في ذات الإله، وإن يشأ   يبـارك على أوصـال شِــلوٍ ممـَزّع
اللهمَّ أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ثم صلبوه.
يقول أبو سفيان بعد ما أسلم: فوالله لقد كنت وابني معاوية ممن حضرَ مقتله، فما سمعت بدعائه حتى انحنيت، وأحنيت رأس ولدي خوفاً أن يصيبنا دعاؤه.
وأما زيد بن الدثِنَّة فإنّ صفوان بن أميّة بعث به مع غلامه نسطاس إلى التنعيم خارج مكة ليقتله بابنيه، فقال نسطاس: أنشُدك الله أتحب أنّ محمداً الآن مكانك نضرب عنقه وأنّك في أهلك؟
قال: ما أحبُّ أن محمداً الآن مكانه بين أصحابه تصيبه شوكة تؤذيه وأنا جالس في أهلي.
فقال أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحداً يحبُّ أحداً كحبِّ أصحاب محمدٍ محمداً.. ثم قتله نسطاس.
وهكذا انطوت صفحة من صفحات الغدر التي تتوالى على المسلمين في كل زمان ومكان، لا لذنب إلا أنهم قالوا: ربّنا الله، ولا يزال ركبُ الإيمان على الرغم من كيد الكائدين، ومكر الماكرين، يمشي معلناً كلمة الإيمان: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
البخاري ج5 ص41
الكامل في التاريخ ج2 ص117


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق