إشكالية كبيرة تواجه العمل الإسلامي،
وعائق من عوائق المسار الدعوي، وحالة من حالات التفريغ المصائبي، وصورة من صور المعاناة،
في بعض شعب العمل الإسلامي، حماسة في غير محلها، عاطفة من غير رشد، اندفاع بلا حساب
للعواقب، ويأتي هذا غالباً، بعد العناء الكبير، واستفراغ الوسع، والجهاد بمعناه الشامل.
(خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ)
(الأنبياء:37).
فكم خرب الاستعجال من خطة! وكم ضيع
من فرصة! وكم جرَّ الحركة إلى مواقف لا تريدها! ولا خططت لها! وكم كلفت مواقف الاستعجال
وقراراته، الحركة الإسلامية، من فواتير باهضة الثمن! وكم تسبب الاستعجال في سلوكيات،
أعقبها ندم شديد، ولات ساعة مندم! حقاً في العجلة الندامة، وفي الأناة السلامة؛
"وما كان الرفق في شيء إلاّ زانه، وما نزع من شيء، إلاَ شانه"، ومن بالرفق
بالفرد والأسرة والمجتمع والدولة والجماعة والحركة، الأناة، والطبخ على نار هادئة،
للقضايا المفصلية والمهمة، وعدم الاستعجال.
لذا من الحكمة ألا تعتمد القرارات
المفصلية، إلا بعد أن تمر على عدة مطابخ للقرار، فأن يتأخر القرار قليلاً، في مطبخ
الإنضاج له، خير من إخراجه نيئاً، يؤدي بآكله إلى دهاليز المشكلات، ونواتج الكوارث.
الاستعجال آفة:
نعم إنها آفة بالغة الخطورة، تأتي
على محاصيل العمل من ألفها إلى يائها، في بعض الأحيان، وتحصد كثيراً منها في غالب الأحيان،
إنها زفرة المسارعة، من أجل تحصيل المنفعة، فلا الزفرة بقيت، ولا المنفعة حصلت.
في زحمة الصعوبات الأولى التي واجهت
أبناء الإسلام، أيام رسول الله – صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم – رغم المحنة العظيمة،
والعذاب الأليم الذي يصب على الصحابة الكرام، يحذرنا عليه الصلاة والسلام من الاستعجال،
ويوصف هذا الداء، لتكون الأمة على درب السلامة، فلا تقع في هذا المرض، جاء في صحيح
البخاري، من حديث خباب – رضي الله عنه – قوله – عليه الصلاة والسلام - : "كان
الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض، فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار، فيوضع على رأسه، فيشق
اثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى
حضرموت، لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون".
ولكنكم تستعجلون في قطف الثمرة، ولكنكم
تستعجلون في استبطاء النصر، ولكنكم تستعجلون بطلب حرق المراحل، ولكنكم تستعجلون بطلبكم
وقوع كبريات الأحداث، بين عشية وضحاها، ولكنكم تستعجلون دون النظر إلى استحقاقات الزمن،
والسنن الكونية، ولكنكم تستعجلون لأن المرء بطبعه يريد حاجته بصورة سريعة، وقد تحققت
على عجل.
والقاعدة الشرعية تقول: "من استعجل
الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه"، هذه القاعدة الذهبية لها تطبيقات كثيرة، وفي مجالات
مختلفة، عمادها تحقيق مقاصد الشريعة، وسد الذرائع، وتحقيق فقه النواتج، والبحث في المآلات،
والنظر السليم في مفردات السياسة الشرعية.
أسباب الظاهرة:
من أبرز أسباب ظاهرة الاستعجال، ما
يأتي:
1- العاطفة المجردة، والتهييج النفسي،
دون الأخذ بأسباب التغيير.
2- الوعود التي بقيت حبيسة الذهن،
إذ في كثير من الأحيان تحشى القلوب والأذهان بالأماني الحالمة، ولما لم تتحقق، تكون
نتوءات الاستعجال، التي تبحث عن اختصار الطريق، للوصول إلى تلك الأهداف الحالمة، فيقع
الخطأ.
3- عدم وجود الخطط الواقعية المزمَنة،
التي تدرس الماضي، وتفقه الواقع، وتستشرف المستقبل، من خلال رؤية سليمة، ونظر سديد،
وقيادة فاعلة.
4- غياب التفاعل والتكامل بين أجيال
العمل الإسلامي، الذي يجب أن يكون بين حماسة الشباب، وحكمة الشيوخ.
5- استدراج الأعداء: وهذه لغة، معروفة
قديماً وحديثاً، ولا يدرك أبعادها إلا من كانت له دراية بفنون العمل، ودربة على أصول
التعاطي مع الأحداث، من خلال الفهم السياسي، والحس الأمني، والمعرفة المبصرة لطرائق
التورط، وكيفية اجتنابه.
6- ضعف فقه الواقع، وسوء تقدير الموقف،
وعدم الإلمام بالحدث من كل أطرافه، والنظر إليه من زاوية من الزوايا، دون النظر إليه
من زواياه كلها.
7- نقص التربية السليمة، التي تبنى
على الصبر والمصابرة، والمجاهدة والمرابطة، والعمل على النفس الطويل، وعندنا العامة
يقولون عن مثل هذا الإنسان: "بصلته محروقة".
توصيات وتنبيهات:
1- الحذر من سيطرة العاطفة المطلقة،
والهيجان الفكري، على خططنا وبرامجنا وجداول أعمالنا، فهذا أكبر المصائب ورأسها، فمن
تسيطر عليه العاطفة، ويعمل بردود الأفعال، ويستجيب للاستفزازات، لا يصلح أن يكون قائداً،
ولو كان صواماً قواماً، من أهل الفضل والخير، فهذا عيب، يغطي على كل إيجابية.
فلا بد من الموازنة الدقيقة، بين العقل
والعاطفة، فلا إفراط، ولا تفريط، وخير الأمور أواسطها.
وفي هذا يقول الإمام البنا ويوصي:
"ألجموا نزوات العواطف بنظرات العقول، وأنيروا أشعة العقول بلهب العواطف، وألزموا
الخيال صدق الحقيقة والواقع، واكتشفوا الواقع في أضواء الخيال الزاهية البراقة، ولا
تميلوا كل الميل فتذروها كالمُعلقة، ولا تصادم نواميس الكون فإنها غلابة، ولكن غالبوها
واستخدموها وحولوا تيارها واستعينوا ببعضها على ببعض، وترقبوا ساعة النصر وما هي منكم
ببعيد..".
2- إياكم والاستعجال في ضم الجدد للعمل،
من غير تمحيص ودقة اختيار، بقصد التجميع، وتكثير العدد، والمباهاة في الكثرة، فهذا
سيجر عليكم الويلات، في الأيام القابلات، فالعبرة بالكيف، لا بالكم، وتبقى الدعوة العامة،
مفتاح خير لكل الناس، مع الخدمة بروحية الصبر، على قطف الثمرة، فلا تستعجل على رزقك.
3- لا تقدموا للقيادة إلاً من اشتدَّ
عوده، وقوي ساعد العمل لديه – طبعاً هنا لا نعني السن – فإن من حملته ما لا يطيق، قصمت
ظهره، فلا تستعجل عليه، واتركه ينضج، ولم العجلة؟ وفي الأمر فسحة.
4- نحن بحاجة إلى القائد المكيث، وهي
صفة من أهم صفات القائد، هذا في الفرد، وفي الجماعة، توافر هذا الشرط أولى، آن للعاملين
للإسلام، أن يعتمدوا الخطط "الإستراتيجية" ذات النفس الطويل، والمديات الفطرية،
وعلينا أن نتخلى عن الخُطَيْط بلغة "كبسة الزر" ونظن أننا بهذا سوف نفعل
الخوارق، ونحقق ما لم تستطعه الأوائل.
5- من الاستعجال انسياقنا وراء بوارق
النصر ومقدماته، دون التأكد من ثبوت المركب الجديد، فنحرق كل مراكبنا، ونكسر سائر جسورنا.
تجربة وكلمات مهمة ونظر صحيح:
يقول الإمام البنا – رحمه الله – في
"رسالة المؤتمر الخامس": "أيها الإخوان المسلمون وبخاصة المتحمسون المتعجلون
منكم، اسمعوها مني كلمة عالية داوية من فوق هذا المنبر في مؤتمركم هذا الجامع: إن طريقكم
هذا مرسومة خطواته موضوعة حدوده، ولست مخالفاً هذه الحدود التي اقتنعت كل الاقتناع
بأنها أسلم طريق للوصول، أجل قد تكون طريقاً طويلة ولكن ليس هناك غيرها.
إنما تظهر الرجولة بالصبر والمثابرة
والجد والعمل الدائب، فمن أراد منكم أن يستعجل ثمرة قبل نضجها أو يقتطف زهرة قبل أوانها
فلست معه في ذلك بحال، وخير له أن ينصرف عن هذه الدعوة إلي غيرها من الدعوات، ومن صبر
معي حتى تنمو البذرة وتنبت الشجرة وتصلح الثمرة ويحين القطاف فأجره في ذلك على الله،
ولن يفوتنا وإياه أجر المحسنين: إما النصر والسيادة، وإما الشهادة والسعادة".
وفي الختام.. لا بد من ثلاث ملاحظات:
1- ذم الاستعجال لا يعني الفتور والضعف،
وبطء الأداء، وإطفاء جذوة الحماسة، بل بالعكس من هذا تماماً، فطوبى لمن جمع بين أناة
الخطط والبرامج، وبين العمل المتواصل الدؤوب، نعم نحن في زمن السرعة، وقطار التغيير،
لا ينتظر الكسالى والراقدين، ولكن الحذر من العجلة، التي تبدد الطاقات، وتهدر الأموال،
وتقوض الأبنية، وتفوت فرص الخير، وبهذا وذاك تكون المعادلة صحيحة وحلها يسيراً، ونمضي
على بركة الله وعونه.
2- نحن هنا نتكلم عن الوضع الطبيعي،
الذي تعبدنا الله به، والقائم على جهد البشر، الذين لا يوحى إليهم، ولا يعلمون الغيب،
مع إيماننا المطلق، بأن الأمور بيد الله تعالى، الذي إذا أراد شيئاً، أن يقول له: كن
فيكون، والتوفيق الإلهي، رأسمال كل خير ونعمة.
3- الرؤى والأحلام، والفراسة والتحديث،
وانتظار الكرامات – رغم إيماننا بها، على مذهب أهل السُّنة والجماعة – لا تبنى عليها
خطط وبرامج، ولا يربط مصير أي حدث بها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق