((ذهب بعضهم
إلى وصف قراءة الأعرج وزيد بن عليّ والأعمش وخارجة عن نافع وابن عامر قوله تعالى:
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ
قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ )، بهمز «معائش» بالغلط، أو الرَّداءة، أو الضّعف، أو
الخطأ.
وقال الزّجاج:
«جميع نحاة البصرة تزعم أنَّ همزها خطأ، ولا أعرف لها وجهًا، إلا أنَّ لفظ هذه
الياء التي من نفس الكلمة أُسكن في «معيشة» فصار على لفظ «صحيفة» فحمل الجمع على
ذلك»، «ولا ينبغي التَّعويل على هذه القراءة». وقال المازني: «فأمَّا قراءة من قرأ
من أهل المدينة «معايش» بالهمز فهي خطأ، فلا يُلتفت إليها، وإنَّما أُخذت عن نافع
بن أبي نعيم، ولم يكن يدري ما العربيَّة، وله أحرف يقرؤها لحنًا نحوًا من هذا».
فالمازنيّ
يرفض القراءة لمجرَّد أنَّها خالفت القياس، ولا يعتدّ بها، وإن كان قارئها قارئ
مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم نافع ؛ بل إنَّه يُشير إلى أنَّ كثيرًا من قراءة
هذا الرَّجل الإمام العدل الثِّقة هي لحن يجب ردُّها، ولو انَّ دارسًا يتتبَّع هذه
المواضع فيظهرها حقَّ الإظهار.
وقد قال الفرَّاء:
«وربَّما همزت العرب هذا وشبهه يتوهّمون أنَّها «فعيلة» لشبهها بوزنها في اللَّفظ
وعدَّة الحروف فيشبّهون «مفعلة» بـ«فعيلة».
وقال
الطَّبري: « وربَّما همزت العرب جمع «مَفْعَلَة» في ذوات الياء والواو وإن كان
الفصيح من كلامها ترك الهمز فيها، إذا جاءت على «مفاعل» تشبيهًا منهم جمعها بجمع
«فعيلة»، كما تشبه «مَفْعلاً» بـ«فَعِيل».
فهذا نقل من الفرّاء والطَّبري «عن العرب أنَّهم
ربَّما يهمزون هذا وشبهه»، ومنه قول الشَّاعر: [الطويل]
مَزَائِدُ
خَرْقَاءِ الْيَدَيْنِ مُسِيفَةٍ
أَخَبَّ
بِهِنَّ الـمُخْـلِفانِ وأَحْفَدَا
«وجاء به نقل
القراءة الثِّقات ابن عامر وهو عربيّ صرَّاح، وقد أخذ القرآن عن عثمان قبل ظهور
اللَّحن، والأعرج وهو من كبار قرّاء التَّابعين، وزيد بن عليّ وهو من الفصاحة
والعلم بالمكان الذي قلّ أن يدانيه في ذلك أحد، والأعمش وهو من الضَّبط والإتقان
والحفظ والثِّقة بمكان، ونافع وهو قد قرأ على سبعين من التَّابعين، وهم من الفصاحة
والضَّبط والثِّقة بالمحلّ الذي لا يُجهل، فوجب قبول ما نقلوه إلينا ولا مبالاة
بمخالفة نحاة البصرة في مثل هذا. وأمَّا قول المازنيّ: «أصل أخذ هذه القراءة عن
نافع» فليس بصحيح؛ لأنَّها نُقلت عن ابن عامر وعن الأعرج وزيد بن عليّ والأعمش.
وأمَّا قوله: «إنّ نافعاً لم يكن يدري ما العربيَّة» فشهادة على النَّفي، ولو
فرضنا أنَّه لا يدري ما العربيَّة وهي هذه الصِّناعة التي يتوصَّل بها إلى
التكلُّم بلسان العرب فهو لا يلزمه ذلك، إذ هو فصيح متكلِّم بالعربيَّة، ناقل
للقراءة عن العرب الفصحاء، وكثير من هؤلاء النُّحاة يسيئون الظَّنَّ بالقرّاء ولا
يجوز لهم».
بل إنَّهم
لَمَّا وجدوها خالفت القياس المعمول به، والكثير المطَّرِد في كلامهم، وصفوها
بذلك، وأمرهم هذا لا يقلُّ عمَّا فعله سيبويه حين وصف قراءة من جمع بين الهمزتين
بأنَّه رديء. وهذا غير مقبول منهم، وما ينبغي لهم أن يصفوها بذلك؛ بل الواجب أن
تُقبل القراءة على شذوذها، وألا تُوصف بما أطلقوه عليها؛ «لأنَّ القراءة سنَّة
متَّبعة، يلزم قبولها والمصير إليها»، ولا يجوز ردُّها، سواء أكانت شاذَّة أم مقيسة.
وما ذكروه من
وصف لهذه القراءات إنَّما هي جسارة منهم، لا تليق بحالهم، ولا بطهارة لسانهم،
لأنَّهم قد عمدوا إلى قراءة متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ بها سلف
الأمَّة، واتصلت بأكابر قرَّاء الصَّحابة الذين تلقوا القرآن من في رسول الله صلى
الله عليه وسلم عمدوا إليها فوصفوها بمثل هذه الأوصاف، لا لشيء إلا لأنَّها خالفت
القياس المعمول به. ومتى كانت القواعد الموضوعة تردُّ القراءة؟ أو تقلِّلُ من
شأنها وتصفها بمثل ذلك؟ فالقراءة إن ثبتت فلا «يردُّها قياس عربيَّة، ولا فشوُّ
لغة».
وإنَّما ذكرت
هذا وأطلت فيه؛ لئلا يطَّلع غُمْرٌ من النَّاس
على كلام المبرد وابن جنِّي وابن يعيش وابن الحاجب وغيرهم في هذه القراءة
فيسيء ظنًّا بها وبقارئها، فيقارب أن يقع في الكفر بالطَّعن في ذلك، أمَّا سيبويه
فحسبه أنَّه أغفل القراءة؛ لئلا تتعارض وآراءه، وهذه سمته في كثير من المواضع.
د. محمد عناد سليمان
8 / 12 / 2014م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق