الديمقراطية لفظ مشتق من اللغة اليونانية،
وهي تعني ( حكم الشعب نفسَه بنفسه ولنفسه) والديمقراطية مفهوم يتسع بمدلوله العام لكل
مذهب سياسي يعتبر إرادة الشعب مصدراً للسلطات، كما تشمل الديمقراطية كل نظام سياسي
يختار فيه الشعب حكامه اختياراً حراً ويراقب أداءهم .
والديمقراطية ليست ضرباً جديداً من
ضروب الممارسة السياسية فقد عرفت في بلاد الإغريق قبل أكثر من ألفي عام عندما أدخل
الفيلسوف كليسثينيس ( Cleisthenes) إصلاحات واسعة في دستور أثينا جعلت الشعب جزءاً أساسياً في
العملية السياسية، ففي عام 705 ق.م أسس هذا المفكر العظيم نظاماً ديمقراطياً أمكن في
ظله لكل مواطن أن يدلي برأيه في السياسة العامة، وبالرغم من فشل هذا النظام أمام جبروت
الطغاة تلك الأيام إلا أنه كان خطوة مهمة على طريق استعادة الشعب لحريته .
وبغض النظر عن اختلاف المؤرخين في تحديد
الميلاد الحقيقي للديمقراطية فإننا نرجح أن الدعوة لمشاركة الشعب في السياسة العامة
هي دعوة دينية في الأصل، نرجح أنها وردت في بعض الكتب السماوية التي لم تصل إلينا،
بدليل ما ورد في القرآن الكريم من دعوة النبي محمد ‑صلى الله عليه وسلم ‑لمشاورة
أصحابه في شؤون الدولة، مما يوحي بأن الديمقراطية ما هي إلا التجسيد العملي للشورى
التي حضَّت عليها الكتب السماوية .
وعلى الرغم من وجود بعض الاختلافات
ما بين الشورى والديمقراطية فإنهما تلتقيان على أمور جوهرية عديدة، فهما تقرران أن
تسيير الأمور العامة في المجتمع ينبغي أن يكون جماعياً من قبل مجلس مختار بنزاهة من
أهل الخبرة والاختصاص (أهل الحلِّ والعَقْد، البرلمان، مجلس الشعب ..) لأن الجماعة
أبعد عن الخطأ وعن التحيز الذي لا يكاد ينجو من سقطاته أولئك الذين يستبدون بالرأي
فينتهون بأقوامهم إلى الهلاك، كما فعل فرعون بقومه عندما أسكت كل الأصوات الحرة بقولته
المشهورة : (( ما أُريكُمْ إلا مَا أَرَى)) فكانت هذه الكلمات منه إيذاناً بزوال دولته !
وفي مقابل هذا الموقف الديكتاتوري المتسلط
من فرعون قدم لنا القرآن الكريم صورة وضيئة لممارسة الشورى من خلال قصة "بلقيس"
ملكة سبأ التي عندما جاءها الكتاب من نبي الله سليمان عليه السلام بأن تأتيه هي وقومها
مسلمين، جمعت أركان حكمها وشاورتهم في الأمر: (( قالتْ يا أيُّها الملأُ أَفتوني في
أَمْري ما كُنْتُ قاطِعَةً أمْرَاً حتَّى تَشْهَدُون))
سورة النمل 32، فلم تستبد هذه المرأة الحكيمة برأيها كما فعل فرعون حرصاً منها على
أهم مبدأ من مبادئ السياسة الحكيمة، ألا وهو الشورى، ونهاية قصتها معروفة، فإن هذه
الملكة بحكمتها وحنكتها السياسية جنَّبت قومها وبلادها معركة مدمِّرة لا قبَل لهم بها !
ونظراً لما في الشورى من خير كبير للمجتمع
فقد جعلها الله عزَّ وجلَّ من صفات المؤمنين الذين قال في وصفهم : (( والذينَ اسْتَجَابُوا
لِرَبِّهِمْ وأقامُوا الصَّلاةَ وأمْرُهُمْ شُورَى بينَهم وممَّا رَزَقْناهُم يُنْفِقُون))
سورة الشورى 38، ونلاحظ في هذه الآية أن الله عزَّ وجلَّ وضع الشورى بين فريضتين هما
من أعظم فرائض الإسلام ( الصلاة والزكاة) تعظيماً لشأن الشورى ومكانتها في استقرار
المجتمع .
ومن باب التأكيد على أهمية الشورى في
استقرار المجتمع أمر اللهُ نبيه المصطفى –صلى الله عليه وسلم‑ بمشاورة أصحابه وأركان دولته فقال تعالى : (( وَشَاوِرْهُمْ
في الأَمْرِ)) سورة آل عمران 159، أي أن الإسلام جعل الشورى من تكاليف النبوة مع أن
النبوة مستغنية عن الشورى بالوحي، ولهذا كان النبي –صلى الله عليه وسلم‑ كثير المشاورة لأصحابه، فلم يكن يقطع بأمر من الأمور التي
تخص الجماعة المسلمة إلا شاورهم فيه، وكان يكرِّر عليهم عند كل نازلة: (( أشيروا عليَّ
أيها الناس، أشيروا عليَّ أيها الناس .. أشيروا عليّ)) حتى إذا استوثق من اتفاقهم على
الرأي أنفَذَه، وقد انتهى جمهور الفقهاء في الإسلام إلى أن (الشورى من قواعد الشريعة،
وعزائم الأحكام، ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب، وهذا مما لا اختلاف فيه) .
لكن، يبقى هناك فارق جوهري ما بين الديمقراطية
والشورى، فهما وإن اتفقتا في آليات الممارسة كما أسلفنا فإنهما تختلفان في المرجعيات،
فالديمقراطية ليست لها مرجعية تقوم عليها اللهم إلا مواد الدستور الذي يبنى عادة على
الاجتهاد البشري المحض، أما الشورى في الإسلام فإنها تبنى على أحكام الشريعة، لأن الأصل
في حياة الأمة المسلمة أن تحقق مقاصد الشارع الحكيم في حياتها، ومن ثم فإن على (أهل
الحل والعقد) أو من يقوم مقامهم من ممثلي الشعب أن يراعوا في اجتهاداتهم وتشريعاتهم
تلك المقاصد، وهذا لا يعني التوقف عند النصوص السماوية وحدها، فقد أعطى التشريع الإسلامي
هامشاً واسعاً للاجتهاد البشري في ممارسة السياسة بشرط أن تراعي المقاصد الكلية للشريعة،
وقد عبر الإمام ابن القيم (ت 751هـ/ 1350م) عن هذه المقاصد الرفيعة بوضوح تام حين قال
: ( إن الله سبحانه أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت
به الأرض والسماوات، فإن ظهرت أمارات العدل، وأسفر وجهه بأي طريق كان، فثمَّ شرعُ الله
ودينُه، فأي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الدين) ، فالقول بأن مرجع الحكم في
الإسلام هو الشريعة الإسلامية لا يعني إلغاء الاجتهاد البشري، ولا يمنع الاستفادة من
تجارب الآخرين، إلا أن يكون مخالفاً لمقاصد الشريعة الإسلامية، وغني عن البيان أن المسلم
الحق ينبغي أن يحرص على آخرته حرصه على دنياه، بل أشد حرصاً، ومن هنا ندرك واقعية مطالبة
الإسلاميين بأن تكون الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للتشريع في وطن عربي يتكون
من غالبية مسلمة، وندرك بالمقابل تهافت الذين ينادون بإقصاء الشريعة عن الحياة السياسية
في وطننا العزيز، لأنهم بهذا الموقف لا يتنكرون لدين الأمة فحسب، بل يتنكرون كذلك للمبادئ
الديمقراطية التي ظلوا لسنوات طويلة ينادوون بها حتى إذا رأوها تؤول إلى الإسلاميين
رفضوها ضاربين بعرض الحائط كل المبادئ الديمقراطية والعقلانية .. بل والوطنية .. فتأمل !
د.أحمد محمد كنعان
Kanaan.am@hotmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق