إن ما يميز هذه الثورة هو الهدف منها
"التحرير" .. ولنجاحها أثر بالغ في ارتفاع الثقة بالقدرة الجماعية للمجتمع
على التغيير وبالتالي قوة الإرادة والتصميم وترسيخها من خلال المرور بالمراحل والمدة
الطويلة وصولاً للانتصار .. خاصة وأن النصر يصنعه الثوار أنفسهم دون مساعدة من أحد.
"من وجهة النظر النفسية يمكن ملاحظة واقع جديد يرافق نهاية الحرب ألا وهو انخفاض
درجة العدوانية عند الأفراد وبالأخص عند موجهي القتال والمقاتلين الأكثر ضراوة"
لكن واقع حرب النظام على شعبه السوري يوحي بعكس هذا فإجرامه وفداحة المآسي تزداد مع
اقتراب النصر إذ أن ثورتنا حرب من نوع خاص لا تنطبق في كل معاييرها على معايير الحرب.
لكن ما يبشر أنه "يمكن القول بأن نزعة العقل الطبيعية تميل لاعتبار كون كل حرب
كبيرة تنهي عهداً وتبدأ آخر جديداً إذ مع انتهاء الحرب تنشط المشاريع المستقبلية وتنتعش
الروح المؤسسية بشكل عام .. خاصة وأن أحد أهم تأثيرات الحرب يكمن في الطلب المتزايد
لليد العاملة" ويشير واقع الحرب النفسي إلى أنه في حالات الحروب تتميز المجتمعات
بأنها تتوق لحالة السلم بعد حالة الارتياح النفسي للتخلص وتحقيق الغرض من الحرب فتسبب
حالة من الارتياح النفسي.
وبأن الحرب مع النظام خلفت شواغر الوظائف
التي كان النظام برؤوسه وأعوانه يستولي عليها من خلال معاييره من أتباعه الذين فروا
وتركوا خلفهم الأماكن ليستلمها ذوي الكفاءة، والحرب توفر انقلاباً في المعايير: قلة
اليد العاملة مع الوفرة في طلبها. وهذا ما يؤدي "للإحساس أن نهاية الحرب تؤمن
استعادة الفرد لشعوره بالثبات خصوصاً وأن احتدام العنف المميز للحرب جعله يشعر وكأن
كل ما حوله مطروح للبحث".
المجتمع السوري مجتمع محافظ بطبيعته
ملتزم دينياً ويتميز الشعب السوري بوعي أبقاه عصياً على الاندراج في حروب طائفية رغم
السوق لها قسراً .. وعصياً على اندراجه تحت ما يوصف بالحرب الأهلية إنما كانت حربه
حرب تحرير بكافة المعايير وهذا التحرير اكتشف الشعب أنه لم يكن مجرد تحرير من نظام
بل أيضاً تجاوزه إلى التحرر من محور ومشروع إقليمي سياسي.
ومن أهم منجزات الثورة أنها نمت الإحساس
ببعض الفضائل كالبسالة والبطولة وروح التضحية واحترام الواجب والإخلاص والاعتماد على
الذات مع بذل الجهد الكامل ذاتياً بسبب تقاعس الآخرين مما جعل ذلك عاملاً أوصل إلى
الثقة بنصر الله.
التخلص من المشاكل النفسية القديمة
عند الشباب بعد انخراطهم في عمل ذو أفق يحقق
غايتهم ويجعل لوجودهم قيمة وتأدية
رسالة كشفت عن معادنهم النقية التي حاول النظام طمسها وتوجيهها في كل اتجاه يشتتهم
عن قضاياهم، فالحرب تساهم في احتواء الأزمات النفسية والمشاكل الداخلية النفسية بتحويلها
إلى خطر خارجي على المرء مواجهته لما احتوت ما في الداخل وحولت النظر كله للخطر خارج
الذات. إذ أن تجنب القنابل والرصاص أسهل من تجنب خطر يكمن في داخل الإنسان ويلاحقه
أينما وكيفما حل. هذا بالإضافة إلى أن الشعب عرف ضرورة وحدة الكلمة، والتعاون والاتحاد
والاعتماد على النفس، فلا حل إلا من أنفسنا، والوعي والثقة بالنفس وبالقدرات الشخصية
خاصة وأنهما كانا وراء صمود سوري أسطوري نادر لا يكاد يوجد نظيره في التاريخ. حتى نمت
فلسفة التحدي وفلسفة الإصرار والصبر والمثابرة ..تلك الفلسفة الحضارية عميقة الجذور،
وشهدت الثورة تحويل الدين والعقائد الدينية من الشعائر المجردة عن العمل إلى سلوك قائم
على ضمير قوي مرتبط بوجود وحياة الإنسان ذاته وعمله، إضافة إلى سيادة رفض الكثير مما
ساد قبل الثورة لا أقله رفض كل من : شريعة القوي يأكل الضعيف، واستمرار الفساد، وابتزاز
حاجات الناس، والأنانية وحب الذات المفرط دون الاكتراث للآخرين وآلامهم فقد وضعت الثورة
الجميع في خندق واحد وعلمتهم أن عليهم إما العمل معاً أو مواجهة الإبادة معاً، نسف
فكرة القائد الرمز الذي لا ينبغي ويمنع مراجعته أو الإشارة إلى أخطائه وتقويمه.
والجيل أظهر الحكمة وبرزت منه القيادات
وظهرت المؤهلات التي كانت مخبأة وغير فاعلة فبدت في عيون الشباب الثائر التطلع لمستقبل
وبدأت أحلامه تظهر من خلال لافتاته التي رفعها في تحقيق إرادته والحصول على حقوقه في
ظل ثورة شاملة تكون الأمل القادم والتي استطاع صنعها بدمائه على درب منتهاه تحقيق تلك
الأحلام. وبدأت الأعمال المنظمة المؤسساتية ولو على نطاق ضيق وإدارة الشعب نفسه بنفسه
بالتدريج حتى ساهم في حماية والذود عن مؤسسات البلد والشعور الحقيقي بالمواطنة وأنهم
يعملون لأجل الوطن بعيداً عن الذات وما ساد من مصالح خاصة سبقت الثورة، بما في ذلك
إيثار مصلحة الجماعة ومصلحة الوطن على مصلحة الفرد. ومن ثم الإخلاص الكامل للوطن والانحياز
الكامل له، ضد من يريد له الخراب من خلال نظام الحكم الذي كان الواجهة لتمرير مخططات
تدمير سورية. فتأسس عند الشبيبة الولاء الكامل للوطن ووعي كامل بالمخططات الخارجية
الغربية التي كان يعيها في عمقه لكنه حققها عملياً في ثورة جعلت منه بين فكي كماشة
مع وحشية النظام وتدخل الغرب ورغم ذلك رفضها، وأظهر وعياً سياسياً رغم التغييب السابق
عن هذا المجال، ظهر جلياً تعبئة المهارات الشبابية في بوتقة الثورة وتنميتها من خلال
التدريب، تعمق التكافل بين الأهالي وتعداه إلى تكافل أوسع وأشمل تجاوز الناس كأفراد
ليصبح بين القرى كما الحادثة الشهيرة التي اعتقل على أثرها "الطفل حمزة الخطيب
بينما كان يوصل معونات غذائية لإخوانه في القرية المجاورة" ثم توسع حتى شمل القرى
الأبعد مع المحافظة وتبدى هذا جلياً من خلال نداء "الفزعة" ثم انتشر ليشمل
الاستجابات بين المحافظات من خلال إطلاق شعار "حنا معك للموت"، عرف الشباب
معنى العمل دون أجر في إطار العمل للثورة وبأخطر ظروفها مما تعدى العمل المجاني إلى
معاني أعمق كالتضحية ليستعد البعض بأن يخسر حياته مقابل مبادئه الوطنية وتحقيق شروعه
في مشروع الثورة مما جعل العمل حقيقة خالصاً لله وللوطن. مما جعل ممارسة القيم ذات
أبعاد وطنية كبيرة كطريق مشرف لخدمة الوطن.
هذا غيض من فيض فما سيكشفه الزمن في
قادم الأيام عن فوائد هذه الثورة على شخصية الشعب السوري أكبر وأكثر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق