يعكس وضع المعارضة السورية حجم ما تعرضت له
من قمع وسحق وانتهاك خلال عقود، إذ لم يكن النظام السوري ليعترف في أيّ يوم من الأيام
وخلال أربعين عاما، بأي شكل من أشكال المعارضة السياسية.
سُحِقت كل قوى المعارضة الحقيقية في سورية،
فلم يبق إلا رموز تاريخية، اختارت أشكالاً من التعبير، تتيح لها حظاً من البقاء، ومعارضة
إسلامية اختارت المواجهة، فصدر بحقها قانون يحكم عليها بالإعدام.
ليس الهدف من هذه الإشارة، الانتقاص من دور
القوى غير الإسلامية، لكن معظم هذه القوى فقدت كثيراً من قواعدها الشعبية منذ وقت طويل.
ومعظم الذين كان يمكن أن يتسيّسوا من أبناء المجتمع، كانوا أمام طريقين: اختيار النظام
ومؤسساته الحزبية، لأهداف وصولية نفعية، أو اختيار النهج الإسلامي في نبذ سياسات الاستبداد
والفساد الاجتماعي والاقتصادي والإداري، دون أن ننفيَ وجود أفراد أو أحزاب محدودة،
من مثقفين لم يكونوا من هذا الفريق أو ذاك..
مشكلة أخرى واجهت المعارضة العلمانية في سورية،
وربما في العالم العربي، هي أن كثيراً من هذه المعارضات، بدلاً من أن تتبنى العلمانية
كمشروع للحرية، مناهض للاستبداد.. تبنته كمشروع مناهض للفكر الديني ومرتكزاته وأشخاصه.
فتحالفت مع المستبد، في الحرب على الإسلام والإسلاميين، إن لم يكن تحالفاً سياسياً
تماماً، فثقافياً واجتماعياً، فخسرت الكثير من قواعدها..
نلاحظ اليوم أن بعض الجهات التي تبحث عن قيادة
للمعارضة السورية، لا تعجبها القوى المتحركة في الشارع، هذه القوى التي لا تخفي هويتها،
مع تبنيها لكل الشعارات المدنية: الوطنية ضد الطائفية، والسلمية ضد العنف، والسعي إلى
الدولة المدنية التعددية.. تحاول هذه الجهات فرض قيادة للمعارضة لا تتمتع برصيد شعبي،
فيتم تبنّي بعض الأفراد إعلامياً وسياسياً كرموز لهذه المعارضة، في محاولة لفرضها على
الرأي العام السوري والإقليمي. ولعلّ هذا من أهم العوائق التي أسهمت في تأخير وحدة
المعارضة السورية.
قد يكون بعض هؤلاء الأفراد أصحاب مشروع شخصي،
تدور مطالبهم حول أشخاصهم ومواقعهم. ومن كان منهم صاحب مشروع سياسي، فهو يريد أن يضخم
من مشروعه ومن قواه، بحيث يكون عنصر استئثار وإقصاء أيضاً..
أعتقد أنه ينبغي أن يتوقف أصحاب هذه المحاولات
عن مخادعة أنفسهم، وأن يبادروا إلى الاعتراف بالقوى الحقيقية الشعبية القائمة على الأرض،
بالعناوين المعبرة عنها. والتعامل معها من منطلق واقعي، وتجاوز كل ما هو فردي أو متمحور
حول التطلعات الذاتية..
وأعتقد أنه عندما يتم الاعتراف بالمعارضة السورية
الجادة، وبقواها الرابضة على الأرض، كما حصل في تونس ومصر وليبية.. فإن هذه المعارضة
سرعان ما ستحقق وحدتها وانسجامها..
المعارضة السورية والتخوفات الذرائعية:
مرت قرابة خمسة عقود على الشعب السوري، والقوى
المجتمعية الوطنية الشريفة الرافضة للانخراط في مشروع السلطة للاستبداد والفساد، تدفع
ضريبة باهظة، من الكرامة والحقوق المادية والمعنوية على السواء. ليس سراً أن النظام
الذي قدم نفسه للعالم - كما يقول كاتب اللوموند الفرنسية - على أنه نظام الأقلية الذي
يحمي الأقليات، قد أحاط نفسه بحزام من هذه القوى، أشركها معه في بعض المكاسب، وجعلها
دريئة يحمي بها خصوصيته الطائفية والأقلوية.
إن الحديث الحرج عن هذا الموضوع، يجب أن يقترن
دائماً بتقديم بعض الإيضاحات، حتى لا يسبق الفهم الخاطئ إلى الأذهان:
فالحديث عن طائفية النظام، لا يعني أبداً اتهام
جميع أبناء طائفته، بالانخراط في مشروعه، ولا يعني أبداً تحميل هذه الطائفة مسئولية
ما يرتكبه النظام من جرائم بحق أبناء الشعب السوري..
وكذلك فإن الحديث عن وجود طبقة أقلوية، منحها
النظام امتيازات على حساب الأكثرية المجتمعية، لا يعني أبداُ تحميل أبناء هذه الأقليات،
المسئولية عن ممارسات النظام التمييزية التي يقوم بها بحق أكثرية الشعب السوري..
إن القراءة الصحيحة للواقع السوري، ينبغي أن
تستحضر كل عناصر هذا الواقع، ولا يمكن للسياسي أن يستحضر بعضها، ويتجاهل بعضها الآخر..
لقد كان بالإمكان تجاوز هذه الطروحات، لولا
أننا بدأنا نسمع أحاديث عن تخوّفات، تطلقها مرجعيات روحية وسياسية، هنا وهناك. وهي
في معظمها تخوّفات موهومة، أو تخوّفات على مكاسب غير مشروعة، وامتيازات ليست وطنية،
يحرص البعض على التمسك بها. ممن لا يبالون أن تتحقق مصالحهم الفئوية على حساب الملايين
من أبناء سورية، الذين قدّموا مئات الآلاف من الشهداء، والمفقودين، والمعتقلين، والمشردين،
من الرجال والنساء والأطفال.. وعلى حساب كرامتهم المنتهكة، وحقوقهم المسلوبة..
وحين يستعرض المرء تاريخ سورية الحديث، في
مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى، وفي مرحلة مقاومة الاستعمار، ثم في مرحلة الاستقلال،
يدرك أن الحقوق الوطنية للأقليات، لا خوف عليها من حكم ديمقراطي رشيد، إنما الخوف من
هذا الحكم على مصالح المستأثرين، وهؤلاء ليسوا من طائفة أو أقليات معينة، إنما يتوزعون
على كافة فئات المجتمع ومكوّناته.
وإذا كان لأحد أن يتخوّف من أبناء الشعب السوري
فهم أولئك الذين قدموا عشرات الألوف من الشهداء خلال أربعة عقود، والذين صدر بحقهم
قانون يحكم عليهم بالإعدام لمجرد الانتماء الفكري أو السياسي، وهم ليسوا جماعة أو حزباً
فقط، كما يظن الكثيرون، والذين تعرضوا لمذابح في صبرا وشاتيلا أيضاً، وكذلك الذين لاحقهم
رصاص الإرهاب في سورية ولبنان وعمان وباريس وآخن ومدريد. وحين تكون مخاوف البعض مجرد
هواجس يحملها مسئولون مسموعو الكلمة إلى آذان أصحاب القرار الدولي، فإن مخاوف هؤلاء،
إنما هي من تاريخ واقعي نسعى إلى تغييره، بإماطة سكاكين الظالمين المتواطئين، عن أعناق
أبناء جيل يتطلع إلى حياة حرة كريمة في ظل المحبة والسلام والوئام.
المعارضة السورية والمشروع الوطني:
وبالخروج من الحديث عن الإنسان حامل المشروع
الوطني: هويته وتطلعاته وهمومه يقتضينا المقام أن نعود لتقرير طبيعة المشروع الوطني
الذي يسعى إليه هؤلاء السوريون..
ابتداء نحب أن نقرر أنه ليس من حق أي فريق
وطني على الصعيدين السياسي والفكري، أن ينسب إلى فريق آخر رأياً أو موقفاً أو تصوراً
لم يصدر عنه بشكل رسمي. هذه الطريقة التاريخية في بناء الصور والأنماط السلبية للمخالفين
ينبغي أن تتوقف. لا يجوز لفريق وطني أن يرسم صورة مخالفه استمداداً من ثقافة تاريخية
دينية أو مدنية، قامت في الأصل على التنابذ والاحتراب.
إن التشاركية الوطنية تقتضي من الناس أن يصغيَ
بعضهم إلى بعض، وأن يقبل بعضهم من بعض. وأن يبحث الجميع عن المشتركات التي توحد ولا
تفرق.
يقوم مشروع المعارضة السورية على وحدة في الهدف
المطروح: إسقاط نظام الاستبداد والفساد، وبناء الدولة المدنية الحديثة، الدولة المدنية
التعددية والتشاركية التي تكون مرجعيتها صندوق اقتراع حر ونزيه.
قد يكون هناك التباس بين قوى المعارضة حول
هذا المشروع، حيث أن الحديث عن الدولة المدنية، قد يكون نوعاً من الحديث عن المشترك
اللفظي، الذي يحتاج إلى توضيح وتفصيل. وبوصف جماعة الإخوان المسلمين أحد مكونات التيار
الإسلامي العريض في سورية، فإنني أستطيع أن أوجز فهمنا لهذه الدولة المدنية والذي سبق
أن عبرنا عنه في ميثاق الشرف الوطني عام 2001، وفي المشروع السياسي لسورية المستقبل
عام 2004.
فالدولة المدنية في رأينا هي دولة تبنى على
الأسس العامة للدولة الحديثة، وفق ما توصل إليه الفكر السياسي الإنساني في أرقى مجاليه..
دولة تبنى على دستور مدني تعاقدي، يشكل العقد
الاجتماعي بين مكوّنات الدولة البشرية..
وتكون المواطنة المجردة من أي وصف إضافي، هي
أساسَ العلاقة مع المواطنين، وفيما بينهم، وهي مناط الحقوق والواجبات.. فيتساوى في
بناء هذه الدولة، وفي الحقوق والواجبات، كلّ الأقوام والملل والنحل والمذاهب والأديان،
كما يتساوى الرجال والنساء..
دولة تقوم على سيادة الدستور والقانون، المعبّرَين
عن الإرادة الجمعية لأبناء المجتمع السوري.
إن الحديث عن دكتاتورية الأكثرية في رأينا
إنما هو محاولة للمصادرة على المطلوب الديمقراطي. إن طبائع الأشياء ووقائع تاريخ علوم
السياسة والاجتماع، تشهد أن الأقليات دائماً هي الأقدر على التحزب والانغلاق. بينما
الأكثريات بطبيعتها البشرية تكون دائما ميداناً رحباً يستوعب كل التناقضات والاختلافات.
هذه سنن تاريخية عمرانية، وليست خاصة بأمة ولا بشعب.
سأتقدم خطوة أخرى على طريق شرح موقفنا من الدولة
المدنية وقانونها المدني، ومرجعيتنا الإسلامية، وكيف يتم الجمع بين هذا وذاك..
كان الشيخ فارس الخوري الحقوقي السوري، ورئيس
الوزراء السوري المسيحي، يقول: إنك تستطيع أن تحكم بالشريعة الإسلامية كقانون مدني.
وإذا كانت قوانين الدولة المدنية وسياساتها،
ينبغي أن تكون تعبيراً عن إرادة الأكثرية السياسية من أبناء المجتمع، المتساوين في
سهمهم في القرار الوطني، فإننا نؤكد دائماً على ضرورة الاحتكام إلى صندوق الاقتراع،
والقبول بنتائجه كائنة ما كانت هذه النتائج.
وحتى عندما نخفق في تحقيق بعض ما نطرح، لن
يكون هذا الإخفاق بالنسبة إلينا نهاية العالم..
الجدلية الديمقراطية ستكون مقبولة لنا أو علينا.
وليس من الإنصاف أن يقول قائل: هناك من سيكسر سلم الديمقراطية بمجرد وصوله للسلطة!!
لأن هذا القول إنما هو جزء من المنطق الاستبدادي الذي أرهقنا طوال عقود. بل هو تعبير
أحياناً عن رواسب وخلافات عقائدية وثقافية أو حزبية، ينبغي علينا جميعاً أن نتسامى
عنها..
إن الإسلام الذي نؤمن به ونرجع إليه، يؤكد
أن الأمة هي مصدر جميع الولايات. ولقد كانت التداولية هي الملمح الأول من ملامح الخلافة
الراشدة التي انتقلت الأمة بأفول نجمها إلى مرحلة الملك العضوض.
كما أننا نؤمن أن الحاكمية التي تعني أساساً
قيمياً لحياة البشر، للتمييز بين الحق والباطل، والخير والشر، والحسن والقبيح، ستظل
في العصر المشتبك الذي نعيش فيه، موضوعاً دعوياً، ينبغي على حملة المشروع الإسلامي
رعايته، حتى يكسبوا له الأنصار والإسناد الشعبي اللازم، وإلا فاللوم لن يقع في مجتمع
ديمقراطي إلا عليهم.
ربما من المفيد أن نقرر إلى أيّ مدى سيتداخل
الفردي بالمجتمعي في منظومة القوانين. ما هي أبعاد الحرية الفردية في المجتمع المدني
الذي نريد. قرأنا لكثير من المفكرين المسلمين يستنكرون على الجمهورية الفرنسية التدخل
في اللباس الفردي باعتباره جزءاً من الحرية الفردية. يعتقد الكثيرون من المثقفين والدعاة
والمفكرين، بضرورة احترام هذه الحرية على المستوى الاجتماعي كما على المستوى الفكري
والسياسي. المجتمع الحر يبني ذاته، والمجتمع المنغلق ينتج المزيد من الانغلاق ولو في
الاتجاه المضاد..
هذه الدولة المدنية حسب تصورنا السياسي هي
التي بها نطالب وعليها نعاهد وهي التي تمثل جوهر مشروعنا الوطني، نتكفل أن نقنع بها
من وراءنا وأن نتعاقد عليها مع من أمامنا. لا خوف ولا تخويف ولا وكس ولا شطط..
رؤية مستقبلية ومطالب
نعتقد أن النظام السوري قد حظي منذ أوائل الستينيات
بألوان من الدعم الدولي لم يحظ بمثله أي نظام عربي. ونعتقد أن الغبار المثار حول المشاكسات
المعلنة على جزيئات تفصيلية ما هي إلا جزء من اللعبة.
لقد كان للنظام في سورية دور وظيفي في المنطقة،
ما يزال الكثيرون يراهنون على استدامته. يحرجهم النظام، فيضطرون إلى التفكير بالبديل،
وفي كل مرة يتقدمون ثم ينكفئون. نحن متأكدون أن ثمة أسباباً تاريخية وراء الموقف. وليس
هنا موضع التفاصيل. فبلاد الشام التي كانت هدفاً للحروب الصليبية الأولى هي الوحيدة
التي تحولت بعد سايكس – بيكو إلى خمس دول. وحماية إحدى هذه الدول كانت هي المدخل العملي
لمحنتنا في سورية التي هي جزء من محنتنا في فلسطين.
والآن.. وبعد سبعة أشهر من الثورة الشعبية،
وبعد أكثر من خمسة آلاف شهيد، وعشرات الآلاف من المصابين، والمعتقلين، والمفقودين،
والنازحين.. ما يزال النظام السوري يحظى بأنواع من الغطاء الدولي. لقد استُقبِل وليد
المعلم في أوروبة، واستُمع له في نيويورك. وروسيا أو الصين ليستا بالدولتين القادرتين
على رفض الموقف الدولي لو كان حازماً.
لا نريد أن نجرّ على شعبنا ويلات تدخل عسكري،
ولا انعكاساته وتداعياته أيضاً. وحين يسأل المجتمع الدولي ماذا تريدون أن نصنع، ندرك
أنهم لا يريدون أن يصنعوا شيئاً..
كتب أحد الصحفيين الكويتيين: إن النظام السوري
هو الوجه العلماني لتنظيم القاعدة.. فلم تصل الرسالة..
تساءل كاتب سوري ترى لو كان هؤلاء القتلى بآلافهم
الستة – والفظائع التي ترتكب بحقهم كانوا من أبناء أي دين آخر أو طائفة أخرى.. كيف
سيكون الموقف الدولي بل والإقليمي أيضاً.. فلم تصل الرسالة.
نعتقد أن وجود بشار الأسد في السلطة وريثاً
لأبيه، كان جزءاً من قرار دولي، شارك فيه جاك شيراك، وعمدته مادلين أولبرايت، وغطته
إرادة دولية صمتت عن تحويل سورية ببشرها وشجرها وحجرها إلى مزرعة.
المطلوب من المجتمع الدولي، أن يوجد آليات
مدنية سلمية أيضاً، مثلما يطالب الشعوب المستضعفة أن تكون ثورتها سلمية.. آليات تكفل
حماية المدنيين من جرائم الإبادة الوحشية، وتحيل مرتكبيها إلى العدالة الدولية..
إن نظاماً ارتكب هذه الجرائم الوحشية بحق أبناء
شعبه، وتفنّن في تعذيبهم وإهانة كرامتهم وإنسانيتهم، وفعل ما فعل بالطفل حمزة الخطيب
وأمثاله، وبالشابة زينب الحصني وأمثالها، وارتكب ما ارتكب من جرائم وفظائع يندى لها
جبين الإنسانية، بحق الشيوخ والنساء والأطفال.. لا ينبغي أن يجد له مقعداً في النادي
الدولي بأي حال من الأحوال..
وإن الشعب السوري بثورته الوطنية السلمية الشاملة،
مصمم على متابعة طريقه نحو استرداد حريته وكرامته، مهما بلغت التضحيات، لكن لا يجوز
أن يُترَك لوحده يواجه آلة القمع الوحشية، التي تنتهك كلّ القيم الإنسانية. وعلى المجتمع
الدوليّ أن يتحمّل مسئوليته كاملة، لحماية المدنيين، من الانتهاكات الخطيرة التي ترتكب
بحقهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق