لم يكن اليهود أغبياء، وعرفوا أن الأوربيين
إنما ساعدوهم لمصالحهم، وأنهم سيغدرون بهم في أول فرصة حين لايعودوا بحاجتهم. ولذلك
فقد بدأوا أول مابدأوا في دولتهم الفتية بترسيخ نظام ديمقراطي حر متعدد الأطياف
السياسية يعمل لمصلحة الشعب اليهودي وليس لمصلحة الحاكم أو الأجنبي. فهكذا نظام هو
الضامن الأول والأخير للاستقرار وفيه يكمن سر قوة أي دولة، وليس في سلاحها مهما
كان فعالاً ولافي حاكمها مهما كان قوياً، فالسلاح قد يتحول في لحظة جنون إلى صدر
الشعب إذا كان الحاكم ديكتاتوراً. ثم عمل الاسرائيليون على الاستفادة من خبرات
المهاجرين العلمية التي أتوا بها من أوربة وأمريكا، كما وسلحوا جيشهم بأحدث
الأسلحة الغربية. وهم خلال ذلك، لم يتركوا أوربا وشأنها كما كانت تتمنى، بل
استمروا بالسيطرة على رؤوس الأموال فيها، وبالتالي بقي الاقتصاد الأوربي رهينة في
أيدي رجال الأعمال اليهود الذين استعملوه للضغط على الحكومات لتتجاوب مع حاجات
دولة إسرائيل الاقتصادية والعسكرية. أما في الجانب الآخر، فكان العرب ومازالوا يعتقدون
حتى اليوم بأن الغرب حليفهم ويريد مساعدتهم.
بعد قرار تأميم قناة السويس، أتى العدوان
الثلاثي (البريطاني الفرنسي الاسرائيلي) على مصر عام 1956م ليشكل نقطة انعطاف في
السياسة الاسرائيلية الخارجية. فقد تفاجأت تلك الدول بغضب الادارة الأمريكية
برئاسة (ايزنهاور) من هذا العدوان، لاحباً بمصر أو برئيسها (عبد الناصر)، ولكن لأن
دول العدوان هذه لم تسشتر وتأخذ موافقة حليفها الأمريكي، وهو الذي خرج من الحرب
العالمية الثانية كالدولة العظمى الرئيسية في العالم، دافعاً بانكلتر وفرنسا إلى
صف الدول العظمى من النخب الثاني. وقد طالبها (أيزنهاور) حينها بالوقف الفوري
للعدوان وانسحاب الدول المذكورة من الأراضي المصرية التي احتلتها، مذكراً لها بأنه
من الآن فصاعداً من سيقود المعسكر الغربي اقتصادياً وعسكرياً. فهمت إسرائيل بذلك
أن عهد بريطانيا وفرنسا قد ولى، وأن عهد أمريكا قد بدأ، فما كان منها إلا أن سارعت
ونقلت ثقلها السياسي من القارة العجوز إلى القارة الفتية وقامت بتأسيس اللوبي
الاسرائيلي في أمريكا والذي يرمز له (أيباك) وهو اختصار (لجنة الشؤون العامة
الأمريكية الاسرائيلية). تختزل مهمة هذه اللجنة بالتأثير على القرار السياسي
الأمريكي عن طريق الرئيس في البيت الابيض أو عن طريق الكونغرس، مما لم يعد يسمح
للدولة الأقوى في العالم أن تفرض رأيها على دولة مجهرية جغرافياً كدولة إسرائيل.
وقد تمت تقوية مكانة هذه اللجنة السياسية بالسيطرة أيضاً على وسائل الاعلام
الرئيسية من صحافة وتلفزيون وسينما، وأيضاً على البنوك والشركات العملاقة في
البلاد.
سأستعرض هنا وباختصار شديد كيف أثرت هذه
اللجنة إيجابياً على مصلحة دولة إسرائيل، وكيف باتت الادارات الأمريكية المتلاحقة
رهينة لرغباتها.
إدارة جونسون (1963-1969م): دعم هذا الرئيس
إسرائيل بالكامل في حربها على العرب عام 1967، بالرغم من أنها التي بدأت العدوان.
وحين قامت إحدى القطع التابعة للاسطول السادس الامريكي في المتوسط واسمها
(ليبيرتي) برصد ذلك، قام الطيران الاسرائيلي بقصفها قاتلاً 31 وجارحاً العشرات من
جنود البحرية الأمريكيين على متنها ثم اعتذر وقال أن ذلك كان عن طريق الخطأ. ولم يتجرأ
(جونسون) على فعل أي شئ، فقبل الاعتذار وتم إغلاق التحقيق على ذلك.
إدارة نيكسون (1969-1974م): اتهمت رئيسة وزراء
إسرائيل السابقة (غولدا مايير) في مذكراتها الرئيس (نيكسون) بالتلكؤ في نجدتها
إبان حرب تشرين عام 1973، ووصفته بالعاق والخائن. وقد دفع الرجل ثمن ذلك لاحقاً
بما عرف بفضيحة (ووترغيت) والتي أخرجته من البيت الابيض بصورة مهينة قبل انتهاء
رئاسته ليكون عبرة لغيره.
إدارة كارتر (1977-1981م): لم تكره إسرائيل
رئيساً أمريكياً كما كرهت (كارتر) وماتزال. إذ يعتبر اليمين المتطرف الاسرائيلي
الذي يحتكر الحكم أن (كارتر) قد مارس الخداع على حكومة (بيغن) وجعلته يعيد (سيناء)
لمصر عبر اتفاقية (كامب ديفيد) عام 1978م، كما تعتبره متعاطفاً مع حقوق
الفلسطينيين، فاتهموه بالجنون والخرف عدة مرات لدفاعه عن تلك الحقوق. وكانوا قد
جندوا الاعلام الأمريكي ضده حين رشح نفسه لولاية ثانية عام 1981م مما ساهم في
خسارته.
إدارة ريغان (1981-1989م): كانت الحرب
العراقية الايرانية قد اندلعت قبل وصول (ريغان) إلى البيت الأبيض بحوالي العام.
وقد كانت إسرائيل تتمنى انتصار إيران بها بسبب تجربتها المرة مع الجيش العراقي في
حرب تشرين. وبالتالي أقنعت (ريغان) بتزويد إيران بالسلاح وقطع الغيار فيما عرف حينها
بفضيحة (إيران غيت). في عهد هذه الادارة بدأ تيار (المحافظين الجدد)، وهو التيار الأكثر
تعاطفاً مع إسرائيل ويمثل اليمين المسيحي المتطرف في الحزب الجمهوري، بدأ بالدخول
إلى البيت الأبيض واستلام مناصب حساسة.
إدارة بوش الأب (1989-1993م): استلم (المحافظون
الجدد) أكثر المناصب الحساسة في هذه الادارة وقاموا مع إسرائيل بنصب فخ (الكويت)
للايقاع بالعراق بمجرد انتهاء حربه مع إيران. وقد وقع (صدام) في هذا الفخ بكل
سذاجة بعد تهديده الشهير بحرق إسرائيل بالكيماوي. غضبت الأخيرة من (بوش الأب) لأنه
رفض احتلال بغداد بعد إخراجه للجيش العراقي من الكويت، ولأنه جرها إلى مؤتمر
(مدريد) للسلام عام 1990م رغماً عنها، ولأنه رفض الافراج عن جاسوسها (بولارد)، فاتهمت
إدارته بمعاداة السامية وسلطت عليه الاعلام وساعدت في إفشاله في حملته الانتخابية
الثانية.
إدارة كلينتون (1993-2001م): قام (كلينتون)
الديمقراطي بتكرار أفعال (بوش الأب) التي أغضبت اليمين الاسرائيلي، فرفض إعادة شن
الحرب على العراق والافراج عن الجاسوس (بولارد)، كما أنه حاول تحقيق اتفاقية سلام
بين سورية وحكومة العمل الاسرائيلية برئاسة (رابين) التي وافقت على إعادة الجولان
بسيناريو كامب ديفيد. رفض (الأسد الأب) العرض لخوفه أن يترتب على ذلك إخراجه من
لبنان الذي يعتبره أهم من الجولان، كما تم اغتيال (رابين) على يد اليمين المتطرف
الاسرائيلي، أما (كلينتون) فتم إلهائه بالدفاع عن نفسه أمام فضائح نسائية متعددة.
إدارة بوش الابن (2001-2009م): لم تعرف
إسرائيل ولاحلفائها من (المحافظين الجدد) رئيساً مطواعاً وسهل القيادة كما وجدت في
(بوش الابن). فالرجل لم يغز العراق ويدمره ويحتله فحسب، وإنما كان يعتقد بأنه يتلقى
وحياً إلهياً من السماء وأن مايقوم به إنما هو استمرار للحروب الصليبية لانهائها
لصالح الغرب، وأيضاً للتحضير لمعركة (أرمجدون) التي ذكر التوراة بأنها ستقع في
نهاية العالم بين الخير والشر على أرض فلسطين، فكوفئ الرجل باستمرار حكمه لفترتين
متتاليتين.
إدارة أوباما (2009-الزمن الحاضر): وضعت
إسرائيل ثقلها السياسي والاعلامي للحيلولة دون وصول (أوباما) إلى البيت الأبيض
بسبب جذوره الافريقية الاسلامية، ولكن (التخبيصات) التي ارتكبها (بوش الابن) خلال
حكمه من جهة وضعف المنافس الجمهوري (ماكين) من جهة ثانية أوصلت الديمقراطيين إلى
الحكم. سرعان مالمست إسرائيل عدم مرونة (أوباما) اتجاهها، فسارع رئيس الوزراء
(نتنياهو) بالحضور إلى واشنطن وألقى كلمة في الكونغرس أعدت لها (أيباك) ببراعة
لتظهر بأنه يتمتع بشعبية أكثر من شعبية (أوباما) نفسه. ولايزال الطرفان ينظران إلى
بعضهما بحذر وعدم ثقة إلى اليوم، ولكن لايمكن تجاهل امتناع أمريكا عن التدخل
العسكري في سورية بسبب الفيتو الاسرائيلي الحامي لنظام (الأسد).
مافعلته إسرائيل من اختراق في أمريكا، فعلته
قبل ذلك في أوربة، ثم فعلت مايشبهه في روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وهي
الآن تقوم على تكراره في الصين وفي الدول الافريقية الغنية والمؤثرة. ولكن وبسبب
الأنظمة السياسية الديكتاتورية في تلك البلاد، فقد اكتفت باختراقها وتطويعها
اقتصادياً وتقنياً وفضائحياً. وهنا قد يسأل البعض: إذا كان لليهود هذا النفوذ
والتأثير حول العالم، فلماذا نضيع وقتنا ونعاديهم؟ هذا ماسأجيب عليه في مقال لاحق حول
(إشكالية العقلية اليهودية وتدميرها لذاتها).
***
(يسمح بنشرها دون إذن مسبق)
بقلم: طريف يوسف آغا
كاتب وشاعر عربي سوري مغترب
عضو رابطة كتاب الثورة السورية
الاثنين 9 ذو الحجة 1434، 14 تشرين الأول، أوكتوبر 2013
هيوستن / تكساس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق