ليس من باب المبالغة إن قلنا أن العسكر في بلداننا
العربية كانوا على الدوام وراء ما حل بالعرب من انكسارات وهزائم وما تفشى في
مجتمعاتها من فساد وتخلف، وما ساد من قمع للحريات وسحق لحقوق الإنسان وتكميم للأفواه
وإطفاء سرج العقول للناس والحجر عليها، وتجريمها إن تفوهت بكلمة (لا) أو سألت
(لماذا)، فسورية على سبيل المثال كانت متخمة بالانقلابات العسكرية المتعاقبة فبعد
ثلاث سنوات من نيلها الاستقلال وقع الانقلاب الأول الذي قاده الزعيم حسني الزعيم
بعد أن أحس أن هناك محاكمة ستجرى له، بعد أن تأكد للحكومة أنه منخرط في عمليات
تموينية مغشوشة للجيش، وعقده صفقات أسلحة مشبوهة مع بعض دول الغرب كانت من مخلفات
الحرب العالمية الأولى غير الصالحة، ناهيك عن سمعته الأخلاقية المشينة التي زكمت
الأنوف وغدت حديث المجتمع السوري بكل مكوناته.
ثم جاء الانقلاب الثاني بعد أقل من ستة أشهر من الانقلاب
الأول وقاده العقيد سامي الحناوي ليعيد الأمور إلى نصابها ويعود بالجيش إلى ثكناته
وتعود الحياة المدنية إلى سابق عهدها، وهذا أمر نادر الحدوث، ولم يتكرر إلا بعد
سنوات طويلة عندما قاد الفريق عبد الرحمن سوار الذهب انقلاباً في السودان وسلم
المدنيين مقاليد الحكم وسحب قطعاته العسكرية إلى ثكناتها.
ثم جاء الانقلاب الثالث (المزدوج) بعد ثلاثة أشهر
تقريباً وقاده العقيد أديب الشيشكلي الذي أدخل البلاد في نفق مظلم وديكتاتورية
مقيتة ومروعة دامت نحو أربع سنوات ونيف، عطل خلالها الحياة السياسية والحزبية
واحتكر كل مواقع النفوذ بشخصه وهيمن على الحياة العامة والخاصة، مستفيداً من
العلاقات التي ربطته بقادة انقلاب 23 يوليو في مصر، حيث راح كل من رجال الانقلاب
في تلك الدولتين ينفذان خارطة طريق جديدة تعطيهم، من خلال أحزاب خلبية أقاموها،
شرعية وهمية قبل بها الناس رغم أنوفهم بقوة السوط والبسطار.
ثم جاء الانقلاب الرابع الذي قاده مجموعة من الضباط
الصغار الذين وجدوا أنفسهم أنهم ليسو مؤهلين لحكم البلاد مما اضطرهم إلى تسليم
المدنيين الذين أعادوا البلاد إلى سابق عهدها بعد الاستقلال وعادت الحياة السياسية
والحزبية إلى نشاطها بحرية وحيوية أنتجت انتخابات نيابية حرة ونزيهة، انتخبت
رئيساً شرعياً قبلت به كل الأطياف السياسية والمجتمعية ورحبت به، وبدأت عجلة
التقدم والتطور تسير بوتيرة عالية، بعد موت سريري نزل بها في عهد حكم العسكر، حتى
بتنا نر الصناعات السورية تنافس الصناعات الأوروبية وتتفوق عليها في كثير من المجالات
وكانت سوريا يومها تسمى: ( يابان الشرق الأوسط ) التي بهرت مهاتير
محمد، وكان يزور سوريا، قياساً بالحالة المزرية التي كانت تعيشها ماليزيا التي
كانت تغط في الفقر والتخلف، فقال: (سأجعلن
من ماليزيا نسخة من سوريا).. وأين سورية اليوم من
ماليزيا التي باتت إحدى نمور دول شرق آسيا!!
وعاشت
سورية أزهى أيام حياتها ونعم المواطن السوري ببحبوحة من العيش قل نظيرها في بلدان
الجوار والإقليم، إضافة إلى تمتعه بكامل الحرية والتعبير عن الرأي واختيار الرجل
المناسب في المكان المناسب بعيداً عن المحسوبية أو الانحياز لعرق أو دين أو مذهب
أو اعتقاد، وقد عشت تلك السنوات وذقت حلاوتها.
ثم
جاءت حركة الضباط المغامرين الذين استكثروا على السوريين ما ينعمون به من أمن
وأمان واستقرار وحرية وتقدم وتطور ونمو في كل مناحي الحياة، حيث قام هؤلاء بزيارة
القاهرة سراً دون علم الحكومة الشرعية التي اختارها الشعب بملء إرادته، وعقدوا
اتفاقاً مع عبد الناصر على قيام وحدة فورية تجمع سورية ومصر بحجة الخشية على سورية
من الشيوعية ووثوب الشيوعيين على الحكم، وقبل عبد الناصر بشروط وضعها أمام هؤلاء
الضباط، والتي كان من أهمها حل الأحزاب وإغلاق دور الصحافة ومنع الأنشطة السياسية
خارج القنوات الرسمية للدولة وعدم تسييس الجيش، وقبل هؤلاء بتحويل سورية
الديمقراطية والتعددية إلى إقليم مقهور بأنظمة ديكتاتورية شمولية، ولتعيش سورية في
نفق مظلم لنحو ثلاث سنوات عجاف عشت مرارتها، إلى أن وقع الانفصال الذي كان نتيجة
لممارسات حاكم سورية عبد الحكيم عامر وطغيان حفنة من الضباط المغامرين الذي كرمهم
عبد الناصر وجعلهم وزراء وحكام إداريين محليين.
لم
يعمر الحال الجديد طويلاً فقد انقض مجموعة من ضباط البعث بقيادة اللجنة العسكرية
التي شكلها مجموعة من الضباط الطائفيين (حافظ الأسد وصلاح جديد ومحمد عمران) فجر
الثامن من آذار عام 1963 وأحكموا قبضتهم على مفاصل ومؤسسات الدولة تحت شعارات
زائفة وعناوين كاذبة، ثم ما لبث هؤلاء أن بدؤوا يأكلون بعضهم بعضاً في مكر وخديعة
وتآمر وغدر يفتقر إليها الشيطان، فقد صفت اللجنة العسكرية معظم كوادر ضباط الجيش المحترفين
الوطنين بأسلوب طائفي مقيت من خلال قوائم تسريح طويلة بدأت بالضباط السنة ثم
الدروز ثم السمعوليين، لتخلو لهم الساحة دون أي خوف من حدوث ما لا يريدون أن يحدث،
وانفردوا في حكم البلاد بطائفية غريبة على مجتمعنا وأخلاقنا وقيمنا من خلال قوانين
ما أنزل الله بها من سلطان، لم تعرفها أمم من كان قبلنا أو عاصرنا، تتصف بالقسوة
والظلم والعنصرية وقد اعتبرناها أنها باتت من التاريخ بعد استقلال سورية عن فرنسا،
لتصبح سورية دولة ديكتاتورية تفوق كل الديكتاتورية السابقة والمعاصرة، ويجعلوا من
سورية الوطن مزرعة لهم ومن الشعب السوري خدم وحشم وعبيد، وكان كل من يفكر أو ينبث
ببنت شفه بالتضجر أو بالتمرد أو العصيان أو المخالفة كان مصيره المقابر الجماعية
أو السجون المظلمة أو المعتقلات المعتمة أو النفي القسري، وقد تجرعت من ذلك الكأس
حنظل السجن والنفي والغربة لأكثر من 32 سنة/ وما يرتكبه العسكر اليوم في سورية من
جرائم وبوائق وفظائع غني عن الشرح والتعريف، وقد بات حديث القاصي والداني ومادة
دسمة تتناقلها الفضائيات بكل ألوانها ومسمياتها وانتماءاتها.
ما
دفعني لكتابة هذا المقال هو تنبيه الأشقاء المصريين إلى المستقبل المظلم الذي سيحل
بهم إن هم لم يؤوبوا إلى رشدهم ويتوقفوا عن غيهم في متابعة وتأييد الانقلابيين
الذين وأدوا الديمقراطية وذبحوا الحرية التي ثار المصريون لأجلها وقدموا آلاف
الضحايا حتى فازوا بها في 25 يناير 2011، والعسكر يريدون إعادة مصر إلى عهد الظلم
والظلمات والتنكيل والقمع والعبودية، فلا تغرنكم كلمات السيسي الماكرة الخادعة،
التي تشبه ما قاله الذئب لليلى، وهو يقول: (أنتم مش عرفين أنكم نور عيونا)، وأخص
بالتحذير أولئك الذين انساقوا وراء الانقلاب ودعموه وناصروه ولا يزالون عن جهالة
أو حقد أو مكيدة يلهثون وراءه ويدافعون عنه في كل محفل، لأنه في النتيجة سيدفع
جميع المصريين الثمن، فالحياة السياسية المدنية وحكمها ومهما كبرت أخطاؤها هي خير
من حكم العسكر ألف ألف مرة، لأنه في النتيجة ستصحح الأخطاء وسيستقيم الطريق،
وأذكركم بأن كل مصائب العرب وتخلفهم وانكساراتهم كان أسبابها العسكر (حرب اليمن –
هزيمة حزيران 1967 – حرب شمال اليمن وجنوبه – حرب الكويت والعراق الأولى والثانية)
وغيرها كثير قد تكون الذاكرة خانتني ولم أذكرها. اللهم قد بلغت اللهم فاشهد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق