تناولت
في مقالي السابق كيف تحولت إسرائيل من ربيبة للغرب ليصبح كل العالم بشرقه وغربه
ربيباً لها. ثم طرحت السؤال التالي: إذا كان لليهود هذا النفوذ والتأثير حول
العالم، فلماذا نضيع وقتنا ونعاديهم؟ للاجابة على هذا لابد أن نتفق أولاً أن
التاريخ لم يعرف عقلية أكثر إشكالية وغرابة من العقلية اليهودية، وذلك من حيث أنها
دائماً تسير إلى مصائبها وأحياناً إلى دمارها بنفسها دون أن يدفعها إليه أحد، أو
هذا مايبدو للعيان على الأقل. ومهما بدا هذا الشعب متمكناً ومسيطراً خلال حقبة من
الزمن، فهو لايستمر بذلك طويلاً وكأن لعنة تطارده مهما فعل، وسأشرح هنا كيف؟
لابد أن أشير في البداية إلى أن هذا المقال
تاريخي بامتياز وليس له أي صفة دينية أو عنصرية، ولابد بالتالي من مقدمة تاريخية
قصيرة لتتبع أصل اليهود كشعب. كما نعرف، فان العرب والاسرائيليين، كشعبين ساميين،
يعودان في نسبهما إلى ذرية سام بن النبي نوح (ع) والتي وصلت بدورها إلى نسل ابني
النبي إبراهيم (ع)، الذي عاش حوالي عام 2000 ق م، من زوجتيه المصرية هاجر
والعراقية سارة. حيث أتى العرب من سلالة ابنه النبي إسماعيل (ع) من هاجر، والاسرائيليون
من سلالة ابنه النبي اسحاق (ع) من سارة. أنجب الأخير بعد ذلك ابنه يعقوب والذي لقب
باسرائيل، ويعني بالعبرية (من تصارع مع الله)، وهو أنجب بدوره اثني عشر صبياً،
منهم يوسف (ع) وبنيامين ولاوي، وعرفوا فيما بعد بالأسباط وعرفت ذريتهم ببني
إسرائيل. أما النبي موسى (ع)، وهو من أحفاد لاوي المذكور، فكان أول نبي يحمل رسالة
إلهية مدونة ولها اسم، وهي الديانة اليهودية، وذلك حولي عام 1000ق م، فصار بنو
إسرائيل من حينها يعرفون أيضاً باليهود. وصلوا إلى مصر الفرعونية قبل نزول الديانة
بعد استلام النبي يوسف (ع) لمنصب وزير، ولكنهم وخلال عدة مئات من السنين انحدروا
إلى طبقة العبيد وتعرضوا للاضطهاد والظلم على يد الفراعنة. اختارهم الله ليكونوا
(الشعب المختار) الذي سيحمل أول رسالة سماوية، فأرسل لهم النبي موسى (ع) ليخلصهم
من الظلم والاضطهاد. ثم نجاهم من فرعون بمعجزة شق البحر الأحمر وأمرهم بعدها
بالسير إلى فلسطين عبر صحراء سيناء واعداً لهم بها إذا بقوا على عهده. وقد نزلت
الوصايا العشر الشهيرة التي أسست للديانة اليهودية خلال تلك الرحلة حين اعتكف موسى
(ع) أربعين يوماً وترك قومه بامرة أخيه هارون (ع). وهنا بدأت إشكالية العقلية
اليهودية التي هي موضوع المقال بالبروز إلى العلن.
فتنة السامري: خرج منهم خلال تلك
الفترة رجل يقال له السامري، فصنع تمثالاً من الذهب على شكل عجل وجعله يخور
وأقنعهم بأن العجل هو ربهم، فسجدوا له متناسين معجزات نبيهم وتنجية الله لهم من
فرعون. حين عاد موسى (ع) مع وصاياه ووجد ماوجد، غضب ودعا عليهم الله، فوقعت بينهم
فتنة كبيرة قتلوا فيها الآلاف من بعضهم، إلى هدأت وعاهدوا نبيهم على طاعته وتابعوا
مسيرهم.
التيه أربعين عاماً: حين وصلوا أخيراً
إلى فلسطين، كان فيها قوم يقال لهم (الجبارون)، فلما أمرهم نبيهم بالاستعداد
للقتال ليدخلوا (أرض الميعاد)، جبنوا عن ذلك وقالوا له جملتهم الشهيرة (اذهب أنت
وربك فقاتلا، إنا ههنا قاعدون). وقد شعر موسى (ع) بالمرارة من ذلك بعد كل مافعله
من أجلهم كما وغضب الله عليهم من جديد لنكرانهم الجميل وكل النعم التي منحها لهم،
فكانت عقوبتهم أنهم تاهوا في الصحراء لأربعين عاماً وكادوا أن يفنوا كشعب لولا
توبتهم وعفو الله عنهم من جديد.
السبي إلى بابل: توفي النبي موسى (ع)
خلال فترة التيه، ولكن أنبياء آخرون أتوا من بعده قادوا يهود بني إسرائيل وتمكنوا
من السيطرة على أجزاء من فلسطين، وليس كلها، وأقاموا عليها فيما بعد مملكة إسرائيل
الموحدة بقيادة ملكهم النبي داوود (ع) ثم ابنه النبي سليمان (ع)، حيث شهدت تحت
حكمهما عصرها الذهبي والذي امتد حوالي الثمانين عاماً لاغير. بعد وفاة الأخير في
القرن العاشر قبل الميلاد، انقسمت المملكة إلى دويلتين: إسرائيل في الشمال (الجليل
ونابلس) ويهودا في الجنوب (الضفة والقدس). بقيت الدويلتان تتناحران مع بعضهما ومع
جيرانهما لحوالي القرنين، كما وتفشى فيهما الفساد بالرغم من تحذيرات أنبيائهم مثل
حزقيال وأرمياه، لتتعرض دويلة الشمال بعد ذلك للغزو فالتدمير من قبل الآشوريين في
القرن الثامن ق م، ودويلة الجنوب إلى الغزو فالتدمير أيضاً من قبل الكلدانيين في
بداية القرن السادس ق م، حيث قام الملك الكلداني نبوخذ نصر بسبيهم إلى بابل بسبب
نقضهم للعهد الذي قطعوه معه، وماكان ليفعل ذلك بهم لولا نقضهم هذا للعهد.
غدرهم بالسيد المسيح (ع): لم تدم فترة
السبي طويلاً، فسرعان ما سقطت المملكة الكلدانية أمام صعود الامبرطورية الفارسية
في النصف الثاني من القرن السادس ق م. تزوج ملك فارس قورش الثاني من جارية يهودية
في قصره تدعى أستر، ظناً منه أنها أميرة فارسية، فدفعته لأن يعتق شعبها ويسمح له
بالعودة إلى فلسطين. ولما فعل، لم يعد سوى المتدينين منهم فيما فضل الأغلبية
البقاء في فارس والعراق للعمل في التجارة والمال. كان العرب الأنباط قد استوطنوا
فلسطين خلال تلك الفترة، ثم وصل الرومان وضموها لامبرطوريتهم. نزل على اليهود مايقرب
من الخمسين نبياً، ففوجئوا واستاؤا لنزول السيد المسيح (ع) بدين جديد، وبدلاً من
دعمه كونه آتياً من نفس الرب، أنكروه وعادوه وغدروا به، مما أكسبهم عداوة الأمة
المسيحية وعرضهم خلال القرون الوسطى في أوربة للعديد من المجازر التي ظهرت بدافعٍ
سياسيٍ واقتصادي، ولكن الدافع الديني أيضاً كان أوضح من أن يتم إخفائه. أما سبب
إنكارهم للدين الجديد فكان عدم رغبتهم الاعتراف بأنهم ماعادوا (شعب الله المختار)
وبالتالي ماعادت لهم (أرض موعودة).
غدرهم بالمسلمين: كرر اليهود حين
نزول الديانة الاسلامية نفس الخطأ القاتل الذي ارتكبوه مع الديانة المسيحية،
أنكروها وعادوها وحاولوا الغدر بنبيها. بدا هذا جلياً حين حاول يهود بني النضير ثم
فشلوا في اغتيال الرسول (ص) في العام الرابع للهجرة في المدينة المنورة، فكلفهم
ذلك نفيهم منها. ثم تآمروا من جديد في العام التالي خلال غزوة الخندق حين نقض يهود
بني قريظة العهد وخانوا المسلمين بارشاد قريش إلى نقاط الضعف وإلى ثغرات الخندق
التي يمكنهم العبور منها. بعد عودة جيش قريش خائباً من حيث أتى، أمر الرسول (ص)
بغزو بني قريظة حيث تم أسر رجالهم وانزال عقوبة الاعدام بمن ثبتت مشاركته في تلك
الخيانة، ونفي الباقي إلى خيبر. ولكنهم ماتوقفوا عن التآمر بعد ذلك، فغزاهم الرسول
(ص) في منفاهم هذا بعد عامين وتم نفي الكثير منهم خارج الجزيرة العربية.
تحالف اليهود الألمان ضد ألمانيا في
الحرب العالمية الأولى: ذكر هتلر في مذكراته أن ألمانيا في نهاية الحرب
العالمية الأولى كانت تتجه إلى الافلاس وكانت بأمس الحاجة لدعم مالي. ولكن وبدلاً
من أن يقوم يهود ألمانيا الأثرياء بدعم بلدهم وجيشهم، غدروا بهما حين تبرعوا
بأموال طائلة للحلفاء الذين كانوا يحاربون بلدهم، مما سارع في إنهاء الحرب وهزيمة
ألمانيا المهينة فيها. استعمل هتلر هذا السبب لتبرير إحراقه لمئات الآلاف من اليهود
الألمان وغير الألمان، معتبراً لهم شعباً خائنا بالوراثة ولايؤمن له. طبعاً أنا
لاأبرر هنا لهتلر ارتكابه لمجازر (الهولوكوست) بقدر ماأني أسرد خلفيتها حسب
ماوردت.
الحلقة الأخيرة، اغتصاب فلسطين ودعم
الديكتاتورية العربية: لم يكف اليهود كل ماجروه من ويلات وكوارث على أنفسهم
وعلى غيرهم من الأديان والأمم عبر التاريخ، فأتوا في القرن العشرين ليسوقوا كذبة
(وطن بلا شعب لشعب بلا وطن) وكذبة حقهم التاريخي بأرض الميعاد. وقد رأت أوربة أن
تساعدهم لتتخلص من شرهم من جهة وكذلك لتزرعهم في قلب بلاد أعدائها التاريخيين، العرب،
من جهة ثانية. فكانت النتيجة تشريد الشعب العربي الفلسطيني ودفعه إلى النزوح،
وكذلك دعم حكام مجرمين ليحكموا الدول العربية، وخاصة المجاورة لاسرائيل، لضمان
أمنها وأمانها. وقد ذكرت في مقال في بداية الثورة السورية المباركة أن المجازر
التي يرتكبها نظام الأسد ضد شعبه، إنما هي مجازر إسرائيلية بامتياز لأن الهدف منها
هو ضمان بقاء الجولان المحتل معها وكذلك ضمان أمنها وأمانها. ليس من مصلحة إسرائيل
أن يحكم سورية شخصيات مثل يوسف العظمة أو ابراهيم هنانو أو سلطان الأطرش، وأثبتت
الثورة السورية المباركة أن الشعب السوري يزخر بأمثال هؤلاء الأبطال. ولذلك وضعوا
عليه نظاماً العمالة والوحشية أقل مايقال فيه، وأقليةً الحقد والجهل والايمان
بالخرافات أقل مايقال في غالبيتها، ليبقي الشعب السوري محكوماً بالحديد والنار.
والوثيقة الفرنسية الموقعة من وجهاء العلويين، ومنهم الأسد الجد، عام 1936
والمتعاطفة مع إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين والمطالبة ببقاء الاحتلال في
سورية، ثم ممارسات نظامي الأسد الأب ومن بعده الابن على الساحتين السورية
والعربية، كلها دليل قاطع على ذلك.
للاجابة على السؤال في مقدمة المقال، فلن
تتوقف الثورة السورية ضد النظام المجرم
ولن تتوقف جهودنا لاستعادة الأرض المغتصبة من إسرائيل. وكما وقع الاسرائيليون في
الماضي في شر أعمالهم، من نقض للعهد إلى الخيانة إلى الاساءة لجيرانهم إلى ارتكاب
المجازر، فالمستقبل لن يكون مختلفاً، وقد أتى ذلك في الأية الكريمة من سورة البقرة
(وضربت عليهم الذلة والمسكنة). فهاهي إسرائيل بعد اغتصابها لفلسطين وتشريدها
لشعبها ودعمها لأنظمة الاجرام في الدول العربية، تهب لافشال ثورات الربيع العربي
ضد الظلم والاستبداد، فتدعم الانقلاب العسكري على الشرعية في مصر، وتمنع أي جهة من
إسقاط نظام الأسد مهما بلغ عدد ضحايا الشعب السوري، ممهدة بذلك الطريق لتكون الهدف
الآتي لانتقام الشعوب العربية بعد إكمالها لثوراتها ووممهدة بذلك لكارثة جديدة ستوقعها
في شر أعمالها كما تعودت أن تفعل دائماً.
***
(يسمح بنشرها دون إذن مسبق)
بقلم: طريف يوسف آغا
كاتب وشاعر عربي سوري مغترب
عضو رابطة كتاب الثورة السورية
الاثنين 23 ذو الحجة 1434، 28 تشرين الأول، أوكتوبر 2013
هيوستن / تكساس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق