1-
توفي خنيس بن حذافة
السهمي في المدينة المنورة، من جراحة أصابته في غزوة أحد، فترك وراءه زوجته
الشابة حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلم يشأ الفاروق أن تبقى ابنته دون
رجل يبني بها، وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه قد ماتت زوجته رقية بنت رسول الله صلى
الله عليه وسلم ، وعثمان، وما أدراك ما عثمان الرجل العفّ المؤمن، من السابقين إلى
الإسلام.
وهل يرى عمر خيراً منه حرزاً حصيناً لحفصة؟.. هذا ما دار بخلد عمر الفاروق،
ولكن كيف يعرض الرجل ابنته على الناس؟ إن من العادة أن يخطِب الرجال النساء، لا أن
يخطب الرجل لابنته رجلاً!! ولكن أليست الفتاة فلذة الكبد كما الفتى سواء بسواء،
فلماذا يخطب لابنه ولا يخطب لابنته؟ من السهل أن يتزوج الرجل المرأة فيكره منها
أموراً فيطلقها ليتزوج غيرها، ومن الصعب أن تتزوج المرأة الرجل فترى فيه ما يرغبها
عنه فتستطيع منه فكاكاً، فلا عيب إذاً أن يختار الرجل لابنته الزوج الكفء الصالح،
بل عليه أن يسعى إلى ذلك قبل أن يبحث عن زوجةٍ لولده.
وهكذا فعل عمر رضي الله عنه، فلقي عثمان، فعرض عليه ابنته حفصة قائلاً: إن
شئت أنكحتك حفصة بنت عمر، وأنت تعرفها وتعرف أباها.
قال عثمان: بارك الله فيك يا أبا عبد الله، سأفكر فيما عرضت عليّ، فنعم
الرجل أنت، ونعم من هو بعض منك يا أخي.
قال عمر: فلبث عثمان ليالي ثم لقيني فقال: أنا شاكرٌ لك ثقتك فيّ، لكنني لا
أرغب هذه الأيام في الزواج.
قال عمر: فلقيت أبا بكر الصدِّيق رضي الله عنه فقلت له مثل ما قلت لعثمان:
إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر يا أبا بكر، فصمت أبو بكر الصدِّيق رضي الله عنه، ولم
يجبه بشيء من قبول أو إعراض، تصريحاً ولا تعريضاً، فغضبت منه أكثر من غضبي من
عثمان، لأن الثاني أجابني مبدياً عما في نفسه، أما الصدِّيق فأعرض عن إجابتي وكأنه
لم يسمع قالتي.
فلبثت ليالي، فلقيني الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: ((يا عمر)).
قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك.
قال: ((أخطب إليك ابنتك حفصة أفتزوجُنيها؟)).
قلت: يا رسول الله هذا فضل منك ومنّةٌ، وما أسعدني وأسعدها بك، وصلتني
بالله تعالى وجعلتني لك صاحباً، وأكرمتني إذ طلبت حفصة زوجة لك، جزاك الله عني كل
خير يا رسول الله.
وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم
ابنة الفاروق، وانضمت إلى عقد أمهات المؤمنين.
قال الصدِّيق لعمر: يا أخي لعلك غضبت مني حين عرضتَ عليَّ ابنتك فلم أعطك
جواباً؟
قال عمر: لعمري إن ما قلته صحيح يا أبا بكر.
قال الصدِّيق: إنّي لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت عليّ إلا أنني كنت
أعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر لي
أنه يرغب في الزواج منها ولم يكن معنا أحد، فقلت: هذا سرّ لا ينبغي لي أن أفشيه،
فلزمت الصمت إلى أن طلبها إليك بنفسه ، ولو تركها النبي صلى الله عليه وسلم لقبلتها يا عمر.
قال عمر: الآن ارتاحت نفسي، حفظك الله يا صدّيق ورضي عنك. وتزوج عثمان رضي
الله عنه أم كلثوم بنت النبي صلى الله عليه وسلم
فلقِّب ذا النورين.
وقال النبي : ((لقد تزوج عثمان خيراً من حفصة، وتزوجت حفصة خيراً من
عثمان)).
2-
قالت عائشة رضي الله عنها: كنّ أزواج النبي صلى الله
عليه وسلم عنده، فأقبلت فاطمة رضي الله
عنها تمشي، ما تخطئ مشيتها من مشية الرسول ، (فهي
تشبهه حتى في مشيته) فلما رآها رحبّ بها وقال: ((مرحباً يا ابنتي)) ثم أجلسها عن
يمينه، فحدّثها وبشّ لها، ثم مال إليها، فأسرَّ لها حديثاً، فبكت بكاء شديداً،
فلما رأى جزعها أسرّ لها حديثاً آخر فضحكت، فتعجبتُ لبكائها وضحكها))، فقلت لها:
خصّكِ رسول الله صلى الله عليه وسلم من
بين نسائه بالسرار ثم أنت تبكين!
فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم
سألتها: ما قال لك رسول الله ؟
قالت: ما كنت لأفشي على رسول الله صلى الله عليه وسلم سرّه.
فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم
قلت لها: أقسمت عليك بالحب بيننا والمودة الصادقة التي تجمعنا أن تحدثيني
بما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت: أما الآن فنعم، سوف أحدثك.
أما في المرة الأولى فأخبرني: أن جبريل عليه السلام كان يعرض عليه القرآن
كل سنة مرة، يقرأ النبي صلى الله عليه وسلم
ويعيده جبريل ليثبت في قلب المصطفى عليه الصلاة والسلام.
أما في هذه السنة فقد قرأه الرسول الكريم
مرتين وكرره عليه جبريل مرتين، فأحسَّ الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أن هذه دلالة على دنو الأجل، وأمرني بالتقوى
والصبر على الفراق، فإن شرف السلف يعدل ما قد يبدو من ألم الفراق، وأنا نعم السلفُ
لك، فبكيت بكائي الذي رأيته وسمعته.
وأما في المرة الثانية فإنه عليه الصلاة والسلام قال: ((يا فاطمة أما ترضين
أن تكوني سيدة نساء المؤمنين وأفضلهن في الجنة))، فأحسست بفضل الله الكبير عليّ
ومكانتي في عليين فضحكت ضحكي الذي رأيته وسمعته.
رياض الصالحين: باب حفظ السر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق