خرج الصحصح بالجزيرة على الرشيد، وكان عامله على الجزيرة يسمى
أبا هريرة محمد بن فروخ فوجه إليه الصحصح جيشا ولكنه انهزم، ثم توسع الصحصح وخرج
إلى الموصل فلقيه عسكرها واقتتلوا فقتل منهم كثيرا، ثم رجع إلى الجزيرة فسير إليه
الرشيد جيشا التقوا به في دورين في معركة قتل فيها الصحصح وأصحابه.
ثم خرج على الرشيد أيضا الوليد بن طريف التغلبي بالجزيرة
واستولى عليها وعلى نصيبين ووصل إلى أرمينية وأذربيجان وحلوان وأراضي السواد، فوجه
إليه الرشيد يزيد بن مزيد الشيباني. وقد أراد يزيد أن يطاوله ليضعفه ويمكر به، إلا
أن البرامكة كانت في نفوسهم حزازة عليه فقالوا للرشيد: إنما يتجافى يزيد عن الوليد
للرحم لأنهما كليهما من وائل وأخذوا يهونون أمر الوليد فكتب إليه الرشيد كتابا
مغضبا وقال له: "لو وجهت أحد الخدم لقام بأكثر مما تقوم به ولكنك مداهن
متعصب، وأقسم بالله إن أخرت مناجزته لأوجهن إليك من يحمل رأسك"، فقام يحرض
أصحابه قائلا لهم: "فداكم أبي وأمي إنما هي الخوارج ولهم حملة فاثبتوا، فإذا
انقضت حملتهم فاحملوا عليهم فإنهم إذا انهزموا لم يرجعوا"، ثم نشبت المعركة
فقتل الوليد.
ثم خرج عبد السلام بن هشام اليشكري بالجزيرة أيضا وكثر أتباعه
بها وذلك في زمن المهدي، فبعث إليه المهدي الجيش تلو الجيش وهو يهزمهم أولا بأول،
فأرسل المهدي إلى القائد الذي بمواجهتهم؛ ويسمى شبيب بن واج ألف فارس، وكان المهدي
قد قوى نفوسهم فجعل لكل جندي ألف درهم وألحقهم بشبيب، فلما وصلوا إليه خرج بهم في
طلب عبد السلام، فانهزم منهم عبد السلام، فاتبعوه حتى أتى قنسرين فأحيط به وقتل
هناك.
ثم كان خروج يوسف بن إبراهيم البرم على المهدي بخراسان ناقما
على المهدي سيرته فتبعه خلق كثير في تلك النواحي.
فبعث إليه المهدي يزيد من مزيد الشيباني فالتقوا في معركة أسر
فيها البرم، فوجه به يزيد إلى المهدي ومعه وجوه أصحابه فلما وصلوا إلى المهدي أمر
بقطع يدي يوسف ورجليه وضرب عنقه وأعناق أصحابه الذين معه.
وكان آخر الخارجين على المهدي ياسين التميمي وكان خروجه
بالموصل محكما، وكان على رأي صالح بن مسرح واجتمع له خلق كثير وأخذ في التوسع فأخذ
أكثر ربيعة والجزيرة، فخرج لقتاله عسكر الموصل ولكنه هزمهم.
فوجه المهدي قائدين أحدهما أبو هريرة محمد بن فروخ، والآخر
هرثمة بن أعين فدارت بينهما معارك انتهت بقتله وانهزم من بقي من أتباعه.
وبانهزامه انتهت حركات الخوارج ضد الدولة العباسية في المشرق
والمغرب، وإن أصبحت للإباضية منهم دولة في عُمان والمغرب.
والإباضية
إحدى فرق الخوارج كما هو معروف رغم إنكارهم ذلك، وهي تنسب إلى صاحبها عبد الله بن
إباض، وهي أكثر هذه الفرق اعتدالا، وأخفها أحكاما على مخالفيها، وألينها مبادئ،
فلا غرابة أن نراها باقية إلى اليوم ولها أتباع ومريدون في المشرق والمغرب من
العالم العربي الإسلامي، ونرى سواها من فرق الخوارج قد بادت، حيث إنها لم تضمن
لنفسها أسباب البقاء.
نشأت الإباضية بعد الهزيمة التي حلت بالخوارج على يد أصحاب الإمام علي رضي
الله عنه في معركة النهروان، ثار البعض ممن بقوا، فعزموا على الانتقام بالعنف،
بينما فضلت جماعة منهم الالتزام بالهدوء والروية والجنوح إلى المسالمة، خاصة وأنهم
يشكلون أقلية ضعيفة لا يقدرون على الدفاع عن أنفسهم، فضلا عن تغيير الوضع، لذلك
قررت هذه الجماعة المعتدلة الرحيل إلى البصرة تحت زعامة أبي بلال مرداس بن أذية
التميمي الذي نصب إماما للشراة- أحد ألقاب الخوارج- فيما بعد. وبانتقال هذه الجماعة
وتمركزها في البصرة أصبحت تشكل فريقا تحول من حزب علني معارض إلى حزب سري يتطلع
إلى الوصول إلى السلطة... وبعد وفاة أبي بلال، انتقلت زعامة الفرقة إلى عبد الله
بن إباض- توفي في النصف الثاني من القرن الهجري الأول- الذي انفصل سنة 65هـ عن
الخـــوارج - وهم في نظر الإباضية أتباع نافع بن الأزرق- ومكث بالبصرة مع أصحابه
بعد خروج المتطرفين منها، يذكر هذه الحادثة عبد الله بن إباض نفسه. وهكذا بدأت
الفترة الأولى من الإباضية التي يمكن تسميتها بمرحلة الكتمان، فيكون- إذن- مكوث
عبد الله بن إباض بالبصرة ومن معه مؤشرا حقيقيا لتبلور الآراء الإباضية وتميزها من
غيرها من المتطرفين الخوارج، ومن ثم يمكن اعتبار هذه الحادثة من الناحية التاريخية
سبباً مباشراً لظهور فرقة الإباضية... إلا أنه ينبغي الإشارة إلى أن التأسيس
الحقيقي للفرقة كان على يد الإمام جابر بن زيد الأزدي العماني (توفي سنة 93هـ)
الذي انضم إلى جماعة أبي بلال مرداس بن أذية التميمي بعد مجيئه إلى البصرة، فكان
لانضمام جابر إلى هذه الجماعة أثر بالغ في نشأة الإباضية وتحديد معالم أفكارها
وآرائها.
ويعتبر الإباضية
جابر بن زيد المؤسس الحقيقي للمذهب، إذ إنه كان الإمام الروحي، وفقيه الإباضية
ومفتيهم، وكان بالفعل الشخص الذي بلور الفكر الإباضي بحيث أصبح متميزا عن غيره من
المذاهب، بينما كان ابن إباض المسؤول عن الدعوة والدعاة في شتى الأقطار.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق