1- يجب أن يكون القائد متحلياً بجملة من المواصفات،
ومجموعة من الخلال، لعل من أهمها الثبات، وقوة العزيمة، ورباطة الجأش، ومتانة الأعصاب،
في مواجهة الصعاب، وعندما تعترض التحديات.
ولا يصح أن يكون القائد ممن تفلت أعصابهم
في الملمات، والمواقف الصعبات، والمسائل المحرجات، فهذا من ضعف العزيمة، وقلة الحيلة،
وتعقبه كوارث لا يعلم مدى خطرها إلاً الله عز وجل.
من هنا كان حرياً بالقائد أن يكون
صامداً لا تهزه الرياح الهوج، ولا تقعد به الحاسمات العجاف، ولا تسقطه الحوادث المرعبات،
بل يشمخ، ويقف على أقدامه، ممسكاً بزمام المبادرة، بلا تخبط، ولا اضطراب، ولا عبث،
ولا يأس، بل يأخذ القرار المناسب في الوقت المناسب، من غير انفعال بعاطفة جانحة، ولا
ارتجال مهلك، ولا تهور يفقد المرء "بوصلة" التفكير السليم، والرأي السديد،
والحنكة والسياسة.
2- من الناس، من يفشل من أول امتحان، ويضطرب من أول
عثرة، ويسقط من على صهوة التدبير، لهزة خفيفة، فيشرق ويغرب، وتظهر عليه علامات الانكسار
والهزيمة، فإذا انهار القائد، حلت المصيبة، وصرنا في بداية طريق الدمار، إلاّ أن يتلافى
الأمر وبشكل سريع، وصورة عاجلة، وربما في ظرف كهذا تبرز مواهب قيادية، ربما كانت كامنة
في زوايا الإهمال، لسبب أو آخر، والأمثلة في هذا – تاريخياً – كثيرة ومتعددة.
عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال
صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: "إذا قال الرجل: هلك الناس، فهو أهلكهم"
(رواه مسلم).
قال أبو إسحاق راوي صحيح مسلم: لا أدري أهلكهم بالنصب
أو أهلكهم بالرفع، قال القاضي عياض في مشارق الأنوار: قيل معناه: إذا قال ذلك استحقاراً
لهم واستصغاراً لا تحزناً وإشفاقاً، فما اكتسب من الذنب بذكرهم وعجبه بنفسه أشد. وقيل:
هو أنساهم لله، وقال مالك: معناه أفلسهم وأدناهم، وقيل: معناه في أهل البدع والغالين
الذين يؤيِّسون الناس من رحمة الله، ويوجبون لهم الخلود بذنوبهم إذا قال ذلك في أهل
الجماعة ومن لم يقل ببدعته. وعلى رواية النصب معناه: أنهم ليسوا كذلك ولا هلكوا إلا
من قوله، لا حقيقة من قبل الله. اهـ. وقال ابن الأثير في النهاية: يروى بفتح الكاف
وضمها، فمن فتحها كان فعلاً ماضياً، ومعناه: إن الغالين الذين يؤيِّسون الناس من رحمة
الله يقولون هلك الناس، أي: استوجبوا النار بسوء أعمالهم، فإذا قال الرجل ذلك فهو الذي
أوجبه لهم لا الله تعالى، وأما على رواية الضم فمعناه: فهو أهلكهم أي: أكثرهم هلاكاً،
وهو الرجل يولع بعيب الناس ويذهب بنفسه عجباً ويرى له عليهم فضلاً، وقد رواه الإمام
أحمد في المسند ولفظه: "إذا سمعتم رجلاً يقول قد هلك الناس فهو أهلكهم، يقول الله:
إنه هالك"، وهذه الرواية ترجح رواية الرفع، ورواه أبو نعيم في الحلية بلفظ: فهو
من أهلكهم أي: أشدهم هلاكاً، والله أعلم.
3- ونبينا صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم كان النموذج
القدوة في هذا الشأن، فها هو، في مكة المكرمة، وقد اشتد الاضطهاد على أتباعه من الصحابة
الكرام، وتحل بالمسلمين الأول مصيبة التعذيب لهم، ويهجم الجاهليون على أبناء الإسلام،
ويصبون جام غضبهم على أتباع النبي العدنان، فهذا يسحل، وذاك توضع الصخرة على بطنه،
وهناك من قضى تحت التعذيب، والمشهد بجملته يحكي قصة مذهلة، من قصص الطغيان والعدوان،
وهنا تبرز مواقف الصحابة في الثبات، وموقف معلم البشرية صلى الله عليه وسلم ليعلِّم
القادة كيف يتصرفون في مثل هكذا ظرف، ومما ورد في هذا، ما جاء عن أبي عبدالله خباب
بن الأرت رضي الله عنه قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة
له في ظل الكعبة، فقلنا ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: "قد كان من قبلكم
يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين
ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا
الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم
تستعجلون" (رواه البخاري).
أراد النبي المعلم أن يتماسك هذا الجيل
أمام هذه المحنة الكبيرة، وأن يري القائد لمن يقودهم ثباته ومتانة أعصابه، وألا ينكسر
أمام الهجمات الشرسة البغيضة، وبهذا ازداد الصحابة ثباتاً ويقيناً بصحة الطريق، وأنه
السبيل إلى الفوز والفلاح والنجاح، كما أنه - وفي ظرف مثل هذا الظرف، وحال مثل هذه
الحال – يبشرهم بالنصر، وأن المستقبل لهذه الدعوة.
4- ويوم حنين، وقد انكشف المسلمون،
ووقع ما وقع من أمر فظيع، يثبت النبي القدوة، ثبات الرواسي، ويدير المعركة بحكمة بالغة،
ورشد منقطع النظير، رغم أن كل ما حوله يوحي بالهزيمة، ولكن بعون الله ونصره، ثم بثبات
القائد، ومتانة أعصابه، وحسن قيادته، وروعة إدارته للأزمة، يكون ذلك النصر المبين..
في صحيح البخاري عن أبي إسحاق قال: سأل رجل البراء رضي الله عنه فقال: يا أبا عمارة
أوليتم يوم حنين! قال البراء: وأنا أسمع، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يولِّ
يومئذ، كان أبو سفيان بن الحارث آخذاً بعنان بغلته فلما غشيه المشركون نزل فجعل يقول:
أنا النبي لا كذب أنا ابن عبدالمطلب، قال: فما رئي من الناس يومئذ أشد منه.
4- ومن الأمثلة القرآنية، نبي الله موسى عليه السلام
مع قومه؛ لما خرجوا من مصر، فإذا بفرعون وجنوده، كادوا أن يدركوهم، وهم يرونهم، فإذا
قلوبهم تسقط في كعوبهم، من الهلع والجبن، البحر من أمامنا، والعدو من خلفنا، مع خواء
روحي مرتفع الوتيرة، ونقص في التربية، يدفع نحو اليأس والإحباط، وتبدأ عملية التلاوم
من الضعفاء، وتراشق التهم، من المهزومين نفسياً؛ (فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ
أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ {61}) (الشعراء)، أما نبي الله القائد عليه
السلام: (كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ {62}) (الشعراء).
يقول سيد رحمه الله : "كلا؛ في
شدة وتوكيد، كلا لن نكون مدركين، كلا لن نكون هالكين، كلا لن نكون مفتونين، كلا لن
نكون ضائعين، "كلا إن معي ربي سيهدين" بهذا الجزم والتأكيد واليقين، وفي
اللحظة الأخيرة ينبثق الشعاع المنير في ليل اليأس والكرب, وينفتح طريق النجاة من حيث
لا يحتسبون".
وهكذا ينبغي أن يكون القائد.
والأمة اليوم تمر بظرف عصيب، وواقع
أليم، وكيد فظيع، فعلى كل مسلم أن يكون على مستوى التحدي، وأن يكون القادة خاصة، بالمواصفات
التي تجعلهم في مقدمة ركب الثابتين، الذين يصمدون في هذا الجو المكروب، ويبثون الأمل
في النفوس، مع تخطيط متطور، وتفكير يتناسب مع الواقع، وفقه يغطي حاجات المرحلة، وعمل
مكافئ لأدوار المحنة، ويكون شعارنا "كلا إن معي ربي سيهدين".
أخطر شيء يواجه الناس، في حال المحنة،
أولئك الذين ينثرون ما في جعبتهم، ضيقاً وحرجاً، وضياعاً وانكساراً، والمسلم لا يجوز
أن يكون كذلك، والقائد عليه مسؤولية أكبر في هذا الشأن.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق