رحم الله حكيم العرب الشيخ زايد آل
نهيان الذي فارقنا وبمفارقته فارقتنا الحكمة التي ارتبطت باسمه، فقد كان القلب
الحاني لكل العرب دولاً وشعوب.. فبصمات حكمته لم تخل منها ساحة من ساحات العرب في
كل الميادين التي تؤلف بين قلوب الحكام العرب وتحل ما استعصى من خلافات بينهم،
مغدقاً الأموال لإقامة المشاريع النافعة في كل قطر من أقطار العرب والمسلمين
والعالم، فكلنا يذكر بناء سد مأرب العظيم في اليمن على نفقة دولة الإمارات، وإنشاء
المساجد ودور العلم في الكثير من عواصم العرب والمسلمين والعالم، والسعي لرأب
الصدع في كل ما يعكر العلاقات العربية العرببة، وفتح أبواب الإمارات لكل وافد عربي
مضطهد في بلده لينعم بالأمن والأمان الذي افتقده في بلده، وأخص منهم المنتمين
لجماعة الإخوان المسلمين السوريين الذين فروا من سورية للنجاة من قانون العار الذي
يحكم على كل منتم لجماعة الإخوان المسلمين بالإعدام بأثر رجعي الذي سنه حافظ الأسد
عام 1980، وتحمل (رحمه الله) بكل أريحية تداعي اتخاذ مثل هذا القرار الجريء. وفي
المقابل كان هؤلاء الفارون إلى الإمارات عند حسن ظن حكيم العرب؛ وفاء وإخلاصاً
وعطاء وإبداعاً، فلم يخل ميدان علم إلا وكانوا فرسانه بذلاً وعطاء.
وجاء الخلف ليديروا ظهرهم لذلك الإرث
العظيم الذي خلفه لهم حكيم العرب، فقد فوجئ الجميع بما أصدرته الإمارات من قوانين
مرعبة ومخيفة خلطت فيها بين الصالح والطالح ووضعت قوائم لم تستثن إلا (الإسلام)
لتكون في ضمن المنظمات الإرهابية التي يجب ملاحقتها واستئصالها، وكان على رأس
القائمة جماعة الإخوان المسلمين والمنتمون إليها لتتكرر الحالة الشاذة التي
ابتدعها حافظ الأسد عام 1980 عندما أصدر القانون رقم 49 الإقصائي والعنصري، الذي
يلاحق بموجبه أعضاء جماعة الإخوان المسلمين ويحكم عليهم بالإعدام دون أي محاكمة أو
تحقيق أو مراجعة، كذلك لم يستثن من القائمة (اتحاد علماء المسلمين) الذي يضم أعلام
علماء العالم الإسلامي ومنهم من ينتسبون إلى دولة الإمارات، كذلك ضمت القائمة أهم
الفصائل التي تقاتل النظام المجرم في دمشق وتدافع عن الشعب السوري (جبهة النصرة)
و(حركة أحرار الشام)، وفي الوقت نفسه فإن الإمارات عضو فاعل في عداد مجموعة الدول
الصديقة للشعب السوري، في حين استثنت من القائمة ميليشيات حزب الله التي تقاتل إلى
جانب النظام السوري المجرم وتسفك دماء السوريين وتدنس مساجدهم وتعمل على حرف عقيدتهم.
وعلى ذكر حكيم العرب لابد لي من شهادة
حق أدلي بها في هذه المناسبة:
في عام 1974 طلبني الشيخ راشد النعيمي
أمير عجمان لأعمل عنده سكرتيراً خاصاً، وتحقق ذلك. وكنت معه في حله وترحاله،
وطلبني يوماً لمرافقته في أمر هام في ساعة متأخرة من الليل، وكانت وجهتنا مقصفاً
يبعد قليلاً عن قصره في عجمان، دون أن يخبرني عن الهدف من زيارة هذا المقصف؛ الذي
كان يعمل به مجموعة من العمال اللبنانيين، وقبل وصولنا إلى المقصف بمسافة لا تسمح
للعاملين بمشاهدتنا، ترجل الشيخ من السيارة متلثماً وكانت الظلمة شديدة، ثم عاد
وبيده كيس ورق قدمه لي وقال: انظر ما بداخل الكيس ففضضت الكيس وإذ به قارورة كحول
(ويسكي)، قلت له إنها نوع من الخمور وذكرت له الاسم. وعدنا إلى القصر.
بعد أداء صلاة الفجر في مسجد القصر في
صباح اليوم التالي أمر الشيخ بتوجيه بلدوزر لهدم المقصف، وبالفعل قام بهدمه وسواه
بالأرض.
وتعلمت من الشيخ رحمه الله أن العدل
أساس الملك وأن التقوى أساس الحكم، أما العدل فتجلى في كون الشيخ رحمه الله لم
يأخذ بوشاية مخبر، فيتحقق بنفسه حتى إذا ما تيقن حكم، وتجلت التقوى بهدمه للمقصف
لأنه، بحسب ما قال لي، حتى لا يقال بعد مماته إن هذا المقصف كان يبيع الكحول
والخمر في عهد الشيخ راشد النعيمي.
ختاماً أقول لمن خلفوا حكيم العرب
وإخوانه العدول إن ما قمتم به لم تتجرأ الدول الكبرى على القيام به فاتقوا الله في
المسلمين وعقلائهم وفقهائهم وعلمائهم، فمن صنفتموهم بالمنظمات الإرهابية وقد
تجاوزوا الثمانين تنظيماً جلهم لا يمتون للإرهاب بأي صلة بل هم أصحاب عقيدة سمحاء
لا تؤمن بالعنف ولا الدعوة إليه، وفي مقدمتهم جماعة الإخوان المسلمين التي تحمّلت
هول الإيذاء من الحكام الجبابرة على مدى ستين عاماً وكانت تحتسب كل ذلك عند الله
دون اللجوء إلى أي لون من ألوان العنف أو مواجهة القوة بالقوة. وهذا ديدنها منذ
ولادتها عام 1928 يتأسون بما وصف الله
نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه: (مُحَمَّدٌ
رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ
بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ
وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ
مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ
شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ
لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق